غواية القراءة كلنا ولدنا نعاني من الوحدة.. وبعضنا يبقى على وحدته

حوالي ٦ سنوات فى المدى

|       19         |
 علي حسين
مهمتي أن أستعين بقوة الكلمة لكي أجعلك تسمع ، وأن أجعلك تشعر ، وقبل ذلك كله أجعلك ترىجوزيف كونرادفي حديث مع أندريه جيد حول الكتب العظيمة ، يقول الروائي الفرنسي الشهير مارسيل بروست :" لعل إحدى السمات العظيمة والرائعة للكتب الجيدة انها تتيح لنا رؤية الدور الذي تلعبه القراءة في حياتنا الروحية " .كان بروست آنذاك في الخامسة الثلاثين من عمره ، لم ينشر سوى قصص قصيرة ، يسعى لكتابة رواية من عدة أجزاء ، يجلس كل يوم الى طاولة الكتابة ، وينهض بعد منتصف الليل دون أن تظهر إشارات على إنجاز أي شيء ، وهناك وصف يقدمه أحد كتاب سيرته عن حياته في تلك الأيام :" كان السرير يئن من ثقل الكتب والأوراق ، وطاولة الكتابة مليئة بأكوام من الورق ، وغالباً ما كان يكتب من دون أن يضع مسنداً ، وهناك علبة أقلام رخيصة ، البعض منها قد سقط على الأرض".ولأن بروست كان محباً للتأمل ، نراه يعشق الوحدة باستثناء علاقته بأمه ، فقد أحبت مدام بروست ابنها بقوة وكانت تؤكد إنه عاجز عن فعل أي شيء من دونها . عاشا أربعة وثلاثين عاماً سوية منذ ولادته وحتى لحظة وفاتها وكان قلقها الأكبر يتعلق بابنها مارسيل الذي لن يستطيع العيش في هذا العالم بدونها :" أرادت أمي أن تعيش كي لاتتركني في حالة من الأسى الوحدة التي كانت تدرك إنني سأغرق فيها من دونها " . كان من عادة مارسيل بروست أن يقرأ صباح كل يوم في القواميس ، وحاول ذات مرة أن يضع قاموساً صغيراً للكلمات التي تعجبه ، ولاحظت أمه إنه كان يركز على كلمة " وحيد " ، وقد أخبرته ذات يوم إن الوحدة لاتقتضي دائما انعدام الرفقة ، فمن الممكن أن تشعر بالوحدة حتى وأنت في علاقة مع الآخرين أو بين أصدقائك . وقبل أكثر من ألفي عام كتب الفيلسوفي اليوناني زينون :" كون المرء وحده ، لايجعله وحيداً ، كما أن وجوده بين الجموع ، لاينفي عنه بالضرورة صفة الوحدة " .يتولد الشعور بالوحدة بسبب غياب أو عدم كفاية القُرب ، هكذا يكتب فرويد في تحليل شخصية دستويفيسكي ، ولهذا يقول فرويد إن أعمال دستويفيسكي كانت تجربة مؤلمة ترتبط بالحاجة غير المشبعة للألفة الإنسانية .في العام 1902 ، بدأت صحة مارسيل بروست بالتدهور ، ومنذ ذلك الحين اضطر الى أن يحيا حياة منعزلة ، وبدأ كأنه هجر كل شيء ، لكنه كان يقرأ كثيراً ، وقبل وفاة والدته بأسابيع ، يكتب في يومياته من إنه يعيش حالياً :"وحيدا محروماً من كل شيء ، من ضوء النهار ، من الهواء ، من كل عمل ، وباختصار من الحياة".ولد مارسيل بروست في العاشر من تموز عام 1871 لوالد يعمل استاذاً للطب كرس نفسه لتحسين معايير تعزيز الصحة النفسية ، وكان مهتماً بوجه الخصوص بمعالجة الامراض المعدية ، وقد سميت إحدى المستشفيات في مرسيليا باسمه ، وعند وفاته عام 1903 ، كان قد حقق شهرة عالمية ، وفي يومياته يكتب مارسيل بروست ، إنه كان يشعر بدونية مقارنة بأبيه ، ويخشى أن يكون الوجه السلبي لهذه الحياة المفعمة بالعمل والنشاط التي عاشها الأب . ما الذي كان مارسيل ينوي أن يفعله بحياته ؟ لقد قرر أن يؤسس مجلة أدبية صغيرة " المأدبة " ، كان الوالد يتمنى لو أن إبنه برع في مجال العمل المحاسبي ، أما هو فقد كان يحب الكتابة والأناقة ، ويستحضر أحد اصدقائه صورته في شبابه :" عينان سوداوان واسعتان ، متألقتان ، نظرة في منتهى النعومة ، صوت أشد نعومة أيضاً من النظرة ، هندام فائق العناية ، صداريات فضاضة من الحرير ، وردة أو زهرة أوركيديا في عروة المعطف ، قبعة مستديرة مستوية الحواف كانت توضع أثناء الزيارات آنذاك قرب مقعد الجلوس " .في العام 1896 ينشر أول كتبه " المسرات والأيام " ، وطلب من اناتول فرانس ان يكتب المقدمة له ، إلا أن الكتاب يفشل فشلاً ذريعاً ، ورغم هذا الفشل كانت أمه تؤمن إيمانا كبيراً بموهبته ، ويجيب على سؤال يوجهه له أحد الأصدقاء عن معنى الشقاء في تصوره :" أن أكون منفصلاً عن أمي " في العام 1905 ، توفيت والدته ، فيقرر الانسحاب نهائياً من الحياة الاجتماعية ، إنه زمن العزلة ، هكذا كتب في دفتر يومياته ، زمن حجرة الكتابة المليئة بالأوراق والكتب والشبابيك المغلقة دائماً لصد الرياح القادمة من الشارع ، إنه زمن ملازمة الورق بصورة دائمة ، حيث ملأ بروست الدفاتر العشرين برواية جديدة ، لم يكن يخرج سوى في الليل بحثاً عن التفاصيل الضرورية لعمله الروائي ، من عام 1910 الى عام 1922 قام بكتابة " البحث عن الزمن المفقود ، وكان يقول لكل من يلتقيه إنه كتب كتاباً جميلاً ، لكن المفاجأة كانت بإنتظاره حيث رفضت معظم دور النشر طباعة الجزء الاول من الرواية ، فقرر في النهاية أن يطبعه على نفقته الخاصة ، وفي 1913 يصدر " منازل سوان " ويتأخر نشر الجزء الثاني بسبب الحرب العالمية الأولى ليصدر عام 1919 بعنوان " في ظلال ربيع الفتيات " لينال عليه جائزة الغونكور ، ويصبح مشهوراً ، ويحظى كتابه بتقدير القراء ليس في فرنسا وحسب ، وإنما في انكلترا وأميركا وألمانيا ، لقد اعترف العالم بانه ليس أمام كاتب كبير فقط ، بل أيضاً أمام أحد المبتكرين النادرين في تاريخ الادب العالمي .يتساءل صمويل بيكت أين تكمن أصالة رواية البحث عنم الزمن المفقود :" إن بروست يرى الكون الأوحد الحقيقي هو كون الفن ، وان الفراديس الحقيقية الوحيدة هي الفراديس التي ضيعناها " .في العام 1928 أقام صمويل بيكت في باريس للمرة الأولى ، حيث تعرف على جيميس جويس ، ثم أصبح صديقه وسكرتيره ، وحين أخبر جيميس جويس بأنه ينوي تأليف كتاب عن مارسيل بروست ، نصحه بأن يتفرغ لقراءة أعمال شوبنهور لكي يفهم رواية مارسيل بروست البحث عن الزمن المفقود ، ونجده يصف عمل الفيلسوف الالماني المتشائم بأنه " المحاولة الأكثر طموحاً لتسويغ الشقاء فكرياً " . أما رواية بروست فقد ألهمته أفكار جديدة متحررة من الأوهام .************كنت في السادسة حين قررت الإنضمام الى جماعة مسرحية شبابية ، أخوض معهم نقاشات حول المسرح والكتب التي تصدر حديثاً ، وفي أثناء المناقشات التي تجري في المجموعة ، كان الحديث يدور عن مسرح اللامعقول ، والذي كنت لا أعرف عنه شيئاً ، وذات يوم أخبرني صديق إنه عثر على مكتبة في شارع السعدون تعرض احدث الاصدارات في مجال المسرح ، كانت المكتبة عبارة عن ممر طويل مليء بالكتب مما اضطر صاحبها ان يستعين بكرسي واحد فقط يجلس عليه في أحيان كثيرة عبد الوهاب البياتي أو غالب هلسا . وكان من عادة صاحب المكتبة " ابو طه " ان يحدثك عن الكاتب والكتاب ، والأهم أن باستطاعته أن يحصل لك على أي كتاب تريده . كانت هذه المكتبة بوابتي الى عالم مدهش من المسرح ، ولا زلت احتفظ بالنسخة التي أعطاني اياها العم " ابو طه " لكتاب " مسرح العبث " وهو دراسة مع مجموعة مسرحيات كانت " في انتظار غودو " واحدة منها .قررت أن أتفرغ لقراءة ما كتبه أعلام مدرسة اللامعقول والعبث ، كانت هذه المسرحيات غريبة ، إلا أن قدرة كتابها على اقناع القارئ مدهشة ، كنت آنذاك أسعى لأن أحوّل قراءاتي للكتب الى فعل اجتماعي أتشارك به مع الآخرين ، وأحببت فكرة أن يقرأ معظم أعضاء المجموعة مسرحية بيكيت هذه . ولد صمويل بيكيت في الثالث عشر من نيسان عام 1906 في إحدى ضواحي مدينة دبلن في ايرلندا وهو الأبن الثاني لعائلة ميسورة الحال ، والده يعمل مساحاً للاراضي ، محب لقراءة الروايات الغرامية بينما كانت الأم تلقن ابنائها الصلوات والتراتيل ، في نفس اليوم الذي ولد فيه ظهر كتاب هنري برجسون " التطور الخلاق " ، وأعلن عن وفاة الرسام الشهير سيزان ، وفي يومياته يخبرنا بيكيت أن لديه ذكريات قبل ظهوره الى الدنيا :" أتذكر انني كنت محشوراً حبيساً ، وغير قادر على الإفلات . كنت أبكي كي يسمحوا لي بالخروج لكن أحداً لم يكن يسمعني . لم يكن يصغي ألي أحد " . ونعرف أن ولادته كانت عسيرة ، حيث استغرقت أكثر من عشر ساعات . منذ اليوم الأول لولادته حظي بعناية متميزة من والدته ، ومثل والدة بروست كانت تحمل له مشاعر حب عميقة ، وأيضاً كانت تتمنى أن يعمل في مجال المحاسبة والمال والتجارة ، وسنجده مثل مارسيل بروست سيرفض ذلك .منذ الصغر نما لديه شغف حقيقي بالكتاب ، أغرم بقراءة هودرلين وشوبنهور وبودلير وابو لينير وغيرهم ، وتفرغ لحفظ التوراة ومعه صفحات كثيرة من القواميس التي كان يقضي معها أوقاتاً طويلة ، وعندما يكبر يخبر والدته بانه سيصبح كاتباً ، في سن الحادية والعشرين نشر كتابه " أحلام المرأه العادية " وهو كتاب وصفه النقاد انذاك بانه مجموعة من الهذيانات ، بعدها بعام يقرر أن يرحل الى باريس هناك يتعرف على جيميس جويس كان عمره آنذاك 22 عاماً و بدأ يفرض تأثيره الكبير عليه وفي حوار معه بعد حصوله على جائزة نوبل عام 1969 ، قال لأحد الصحفيين إن " جويس كتب من موقع ( كلي القدرة ) أو على نحو رباني ، في حين إنه – اي بكيت – كتب من موقع الجهل والعجز " ، في العام 1930 يعود الى ايرلندا بعد أن علم بموت والده فجأة ، كان الخبر بالنسبة له مؤلماً وجعله مكتئباً ، مما دفع أمه أن تدخله مصحة للعلاج النفسي ، وقد ساعده ذلك العلاج على أن يتخذ قراراً ببدء حياة جديدة بفضل معرفته للعديد من اللغات ، فغادر الى المانيا للدراسة فيها لمدة سنة واحدة ، وهناك يتفرغ للغوص في أعمال شوبنهور ، كتب الى أحد أصدقائه :" كانت قراءته أشبه بنافذة فتحت فجأة في غرفة تفوح منها رائحة العفن . لقد عرفت على الدوام إنه من بين أكثر الاشخاص أهمية في حياتي ، وبدأت أفهم وأنا في الثلاثين من عمري لماذا كانت قراءة شوبنهور متعةً أكثر حقيقية من كل المتع التي ذقتها منذ زمن طويل . إنها لمتعة أيضاً ان تجد فيلسوفاً يقرأ كما يقرأ شاعراً " .لقد قرر نهائياً أن يتبنى وجهة نظر شوبنهور التي تتفق مع نظرته الى العالم والأشياء . القطيعة النهائية بين الإنسان والطبيعة ، وبين الإنسان والإنسان ، والحياة المليئة بالألم والموت والضياع والوحدة والفراغ .يعود من جديد للقاء معلمه جيميس جويس ، وقد ربطت بينهما صداقة استمرت حتى موت جويس ، كان الاثنان يحبان الصمت : " كانت المناقشات بيننا تقتصر غالباً على تبادل الصمت " . كان جويس يجلس جلسته المعتادة ، وقد لف ساقيه وقدميه ويتخذ بيكيت برغم قامته الطويلة الوضع نفسه .في العام 1948 ، ينتهي بيكيت من كتابة مسرحيته " في انتظار غودو " لكنه يواجه رفض المسارح تقديمها ، لأنها مسرحية بلا حكاية ولا أحداث ويستمر الأمر حتى يوم الثالث من كانون الثاني 1953، ففي ذلك اليوم كان الباريسيون على موعد مع مسرحية ديكورها مختصر الى أبعد حد ، شجرة جرداء وممثل يحاول خلع حذاءه ، إنه استراغون، وسرعان ما يلحق به فلاديمير ، ويبدو للمشاهد إنهما إلتقيا بالأمس فقط ، لكننا نكتشف إنهما تعارفا منذ خمسين عاماً ، إنهما ينتظران في هذا المكان شخصاً على موعد معهم ، لانعرف سوى أن اسمه غودو ، وهما يشغلان وقتهما بانتظار مجيئه بحديث مشتت تختلط فيه الشكوى بالحنين والذكريات والتأكيد على الصداقة ، والتذمر أيضاً ، ورغبة في الذهاب ، لكنها سرعان ما تتلاشى - هيا بنا . - لايمكننا الذهاب - لماذا - اننا بانتظار غودو ولسوف تتكرر هذه العبارة سبع مرات ، ويستمر ذلك الإنتظار الرتيب على طول مدة المسرحية :" لاشيء يأتي ، لا شيء يحدث، لا أحد يجيء ، إن هذا لايطاق " ، لكن شخصين جديدين يظهران على المسرح ( بوزو ولوكي ) تبدو على الأول سمات الطاغية ، فهو يمسك بالثاني في حبل ، ويُحمل عليه حقائبه ، ويلقي عليه أوامره بقسوة ، ولا يفعل شيئاً سوى المرور على المسرح ، وعرض مشهد يرقص فيه لوكي بناء على أوامره ، وبعد ذهاب هذين الشخصين ، يعود استراغون وفلاديمير الى الإنتظار ، حتى لحظة وصول صبي يعلن أن غودو :" لن يأتي هذا المساء ، لكنه سيأتي غداً بكل تأكيد " .الفصل الثاني وهو اليوم الثاني حيث نشاهد الشجرة مكسوة ببعض الأوراق ، ونجد أن الأحداث نفسها تتكرر على المسرح مع تغيرات بسيطة ، عاد فلاديمير واستراغون ليلتقيان مرة أخرى وعادا الى الإنتظار والى حديث متقطع ، حيث نجد استراغون يتحدث دائماً عن الرحيل ، لكنه يخفق دائماً في الوصول اليه . ويعود بوزو ولوكي ، لقد أصبح الأول أعمى ، والثاني أخرس ، ومرة أخرى لن يأتي غودو ، ويعود الغلام نفسه لينقل الرسالة ذاتها ، وينتهي الفصل الثاني بعبارة مكررة حرفيا من نهاية الفصل الاول : - نذهب إذًاً- هيا بنا ( ولا يتحركان ) .إذن نحن أمام مسرح يتحول الجميع فيه الى كتلة لحمية . فاستراغون وفلاديمير ، بوزو ولوكي ، ليسوا سوى تسميات لحضور وحيد هو : الإنسان . لكن الأكثر غموضا بالنسبة لجمهور المسرح ، بالتأكيد هو غودو ، والذي أفسح اسمه وغيابه الدائم لتفسيرات عديدة ، فالاسم جعل البعض يعتقد إنه مشتق من الكلمة الانكليزية " God " أي الله ، ويتضح بذلك في مجمل أحداث المسرحية ، إذا كان فلاديمير واستراغون في انتظار الإله ، لكن هذا لم يأت ، ونكون بذلك أمام مشهد يمثل بؤس الإنسان من غير الإله ، وان الله غير آبه الى قدر الإنسان العابث ، وتبقى النتيجة إن الإنسان لايعرف إلا وجوداً بلا معنى ، لقد خلق ليموت ، وما حياته إلا حركة جوفاء لاترتبط بأية أهمية ، ولعل أهمية في انتظار غودو تأتي من انها كانت خلاصة للفلسفة الحديثة من شوبنهور وعدمية الوجود ، الى هيدغر وعبارته الشهيرة الإنسان خلق للموت الى وجودية سارتر " لايمكن تفسير الوجود ، إنه عبثي".إن عالم بيكيت أسود وعدمي ، بل هو حالك السواد والعدمية . وكما حدث مع شوبنهور ، فإن نجاح بيكيت كان بطيئا ، كانت كتبه تباع لكن المبيعات قليلة جدا . فعلى سبيل المثال لم يبع من كتابه " ميرفي " سوى أربع وثمانين نسخة بين 1941 و1951 وكان آنذاك في الخامسة والاربعين ، وكان يكسب عيشه من تدريس اللغة الانكليزية ، وزوجته تعمل في خياطة الملابس ، تسانده ، تحتمل نوبات يأسه ، وتعجب بحاجته للصمت وتشاركه فيه . ثم بدأت الشهرة ، وبدأت مسرحياته تعرض وتنتقد وتمتدح وتترجم الى لغات العالم ، وتحسن وضعه المالي لكنه ظل يعاني من الإكتئاب ويشعر باحباط شديد ،يكتب الى أحد أصدقائه " أنا بحاجة الى قراءة شوبنهور من جديد ، كي يساعدني في مصارعة الحالة التي أمر فيها " .************قال عنه نيتشه إنه عاش وحيداً ، في عزلة مطلقة ،ولم يكن يتخذ له في حياته صديقاً قط ، وما بين الواحد المفرد واللاشيء ، تمتد الأبدية . كان شوبنهور قد فقد أباه وهو في السابعة عشرة من عمره ، علاقته مع أمه كانت بين مد وجزر ، كما إنه لم يتزوج . كان آرثر شوبنهور قد ولد عام 1788، ورث عن أبيه كما يقول إرادته ، أما عن أمه فقد ورث عنها ذكاءها المفرط ، في سن الخامسة عشرة أبدى رغبته في دراسة الأدب ، في التاسعة عشرة من عمره بدأ يجرب كتابة الشعر ، وقرر أن يعيش في بيت منعزل ليتفرغ لكتابة رسالته الشهيرة في الفلسفة " العالم إرادة وتمثلاً " الذي صدر عام 1819 ، ولم يبع الناشر سوى 400 نسخة خلال عشرة أعوام .في هذا الكتاب يرى شوبنهور إن الوساطة الوحيدة بين الإنسان والعالم الخارجي هي الحواس والمشاعر . فأنت إن رأيت شجرة انطبعت صورتها في ذهنك ، وهذه الصورة إنما انتقلت عن طريق عدسة العين ، فقد تكون مطابقة لحقيقتها الخارجية وقد لاتكون ، إذن فالصورة التي يكوّنها ذهنك عن هذا العالم هي فكرة خلقتها حواسك ولا يحتم أن تكون لها حقيقة واقعة مطابقة لها ، ويكاد يجمع الفلاسفة على أن العقل وجوهره هما الشعور والفكر ، إلا أن شوبنهور يرفض ذلك ،وكان يتهم الفلاسفة بأنهم يتلاعبون بعقول الشباب ، ويسخر من هيغل الذي كان يجده يقارن بين الأشياء ويوازن بين الآراء دون أن يهتم بالأشياء في حد ذاتها ، ولهذا نراه يكتب إن الظواهر جميعها سواء أكانت مادية أم نفسية محكومة بقوة واحدة ، لاشخصية ، ولايمكن مقاومتها يسميها " إلارادة " ، إلا أن معنى هذه الكلمة عند شوبنهور يكاد يكون بالنقيض من المفهوم الشائع عن الإرادة بوصفها أمراً خاضعاً لسيطرة الإنسان وتوجهه ، لسنا نحن من يريد ، بل العالم ، الطبيعة ، فنحن لانملك من الأمر شيئاً ، سواء علمنا أم لم نعلم، فنحن مجرد ظواهر عارضة ، محكومون بتلك الإرادة التي تسبقنا وتتجاوزنا ، وهذه الإرادة هي جوهر الأشياء في الكون ، وهي المادة الأصلية الوحيدة لأية ظاهرة من الظواهر ، ولهذا نجد شوبنهور يضع حرية الاختيار في مرتبة الوهم البشري ، ويرى إنه حتى في الحالات التي يكون لدينا انطباع باننا نفعل ما نريد فإن هذه الإرادة تحدها طبيعة شخصيتنا التي لاسلطة لنا عليها ، إن ما يحركنا هو دوافع ونزوات لاتخضع لسيطرتنا وبالتالي لافائدة من الندم على أي من أفعالنا الماضية في مقدمة كتاب " العالم إرادة وتمثلاً " يكتب شوبنهور :"لا الى معاصريّ ، بل الى البشرية ، أكرس عملي الذي اكتمل الان ، واثقاً إنه لن يكون غير ذي قيمة للبشرية ، حتى لو كان سيتم الاعتراف بهذه القيمة ببطء، كما هو المصير الحتمي للخير بأية صيغة كانت".

شارك الخبر على