محطات في حياة أحمد زكي.. «الإمبراطور» من التعاسة إلى قمة المجد

حوالي ٦ سنوات فى التحرير

أحمد زكي.. النمر الأسود العبقري الإمبراطور، المحروم الذي جسّد بالحرمان أحلام غيره، ابن نيلنا وبشرتنا وانكسارنا وعزتنا، صاحب المشوار الفني الذي تجاوز ثلاثة عقود من عطاء متواصل استطاع به أن يُدوّن اسمه في سجل عظماء السينما العربية، إن لم يكن أعظمهم، لعله لو امتلك لغات أخرى غير العربية لكان واحدًا من كبار نجوم السينما في العالم، حاول الهروب دائمًا من التعاسة إلى البهجة، ومن البكاء إلى السعادة، ومن القسوة إلى الاحتواء، حيث أدارت له الحياة ظهرها وخاصمته كثيرًا حتى في سنوات مجده، ولكنه طالما كان يتجاهل كل ذلك كي يمنحنا مزيدًا من حلاوة الفن، وعبقرية الأداء، كانت عيونه هي كاميرات أحاسيسه وبوابات دواخله، وصنع متنًا على الشاشة خاصًا به، محتميًا بغرف الفنادق والوحدة.

ولد أحمد زكي يوم 18 نوفمبر 1949 في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية، عاش حياة صعبة ومؤلمة، كان يتيم الأب منذ عامه الأول، بالإضافة إلى أن والدته تزوجت وعاشت بعيدًا عنه، فتمت تربيته على يد جده وأعمامه، وكان على الفتى أن يتعلم ويعمل، ثم التحق بمدرسة الثانوي الصناعي، وهناك اشترك في مهرجان المدارس الثانوية ونال جائزة أفضل ممثل على مستوى مدارس الجمهورية، حينها سمع أكثر من شخص يهمس: "الولد ده إذا أتى القاهرة سيُصبح ممثلا كبيرا"، وهو ما فعله في سن العشرين، وفي السنوات الأولى في العاصمة قضى فترة صعبة ومثيرة في الوقت ذاته، وبسبب موهبته الفنية التحق بمعهد الفنون المسرحية، وتخرج في الترتيب الأول على دفعته عام 1973.

أثناء دراسته جذب إليه الأنظار بدور صغير في مسرحية "هاللو شلبي" أمام الفنانين عبد المنعم مدبولي وسعيد صالح، عام 1969، وعليه قدّمه المخرج جلال الشرقاوي في "مدرسة المشاغبين"، عام تخرجه، واشتهر عند عرض المسرحية في التليفزيون، وفي يوليو من نفس العام، كان الاحتفال بمرور ألف عام على تأسيس القاهرة، وتكشف صفحات مجلة "سينما الفنون"، أنه تم الاستعداد لإقامة احتفالية على شكل أوبريت كتبه "جاهين"، وكان "زكي" ضمن الكومبارس، لكن نجوم الصف الأول اعتذروا لانشغالهم بأعمال أخرى، وهو ما دفع المخرج الألماني للأوبريت، إيرفن لابستر، ليرشح الشاب الأسمر لأداء البطولة، لكن الرفض كان مصيره بسبب مدير المسرح، سعد أبو بكر، وكان مبرره وقتها: "كيف يؤدي طالب بالفنون المسرحية بطولة أوبريت كبير؟"، وكتم "زكي" مرارة الرفض وكان عزاؤه اهتمام المخرج الألماني به، الذي طالبه بالسفر إلى أوروبا لإكمال دراسته بدلًا من الدفن وسط أناس لا تقدر الموهبة.

"الشاب" شارك بعدها في عدة أفلام، منها "ولدي، شلة المشاغبين، أبناء الصمت، بدور، وليلة وذكريات"، إلى أن تم اختياره في فيلم "الكرنك"، ولكن رفضه المنتج رمسيس نجيب، بعد أن بدأ التحضير للفيلم، لكونه أسمر، معتبرًا أن وقوفه كحبيب أمام سعاد حسني، سيكون غير مقنع على الإطلاق للمشاهدين، وسيعرقل تسويق الفيلم، فاعتذر له السيناريست ممدوح الليثي، قائلًا له: "الموزعين اليومين دول يا أحمد بيتحكموا في السينما المصرية"، وأجبر الشاعر الكبير صلاح جاهين "الليثي" على تعويضه بمبلغ 150 جنيهًا، وكان ذلك بحضور السندريلا، وعلى أثر ذلك حاول الانتحار وضرب جبهته بكوب زجاجي ما أدى لجرحها، وتم إنقاذه على يد الفنان الراحل حسن مصطفى، الذي أخذه على المستشفى سريعًا لتُقدمه بعد ذلك الفنانة ماجدة في فيلم "العمر لحظة"، عام 1978، وفي نفس العام أحدث نجاحًا كبيرًا من خلال مشاركته أمام سعاد حسني بفيلم "شفيقة ومتولي"، بعد إصرار من بطلة العمل على وجوده، لتبدأ رحلة نجاح كبيرة لم يشهد الفن المصري والعربي لها مثيل.

محمد رمضان الأقرب لـ«النمر الأسود».. 5 فنانين تشبهوا بأحمد زكي

نجاحات حققها الشاب الأسمر، شجّعت سمير العصفوري على اختياره لمسرحية "العيال كبرت"، عام 1979، وهي المسرحية التي ألقت الضوء على موهبته التي تفجرت في نفس العام بمسلسل "الأيام" الذي جسّد فيه حياة عميد الأدب العربي طه حسين، ورغم أن دوره كان ثانويًا في فيلم "الباطنية"، عام 1980، فإن الجوائز انهالت عليه، وقدّم على مدار عقدين تاليين، أفلامًا تحمل قضايا هامة معالِجة لبعض مشاكل المجتمع أظهر فيها إبداعه، ومنها: "العوامة رقم 70، المدمن، البيضة والحجر، الهروب، أرض الخوف، وزوجة رجل مهم"، وفي الاحتفال بمئوية السينما العالمية عام 1996 اختار سينمائيون ستة أفلام قام ببطولتها أو شارك فيها زكي ضمن قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، وهي "أبناء الصمت، زوجة رجل مهم، البريء، أحلام هند وكاميليا، الحب فوق هضبة الهرم، وإسكندرية ليه"، وكان عادة ما يُقدم الأدوار التي تُبهر وتُثير الدهشة مثل فيلم "كابوريا، البيه البواب، مستر كاراتيه، سواق الهانم، والنمر الأسود"، وذكر في حوار نادر له مع الإعلامي طارق حبيب، ببرنامج "من الألف إلى الياء": "الشخصيات التي أديتها في السينما حزينة، ظريفة، محبطة، حالمة، متأملة.. تعاطفت مع كل الأدوار، غير أنني أعتز بشخصية إسماعيل في فيلم عيون لا تنام".

"في العاشرة كنت وكأنني في العشرين، وفي العشرين شعرت بأنني في الأربعين. عشت دائمًا أكبر من سني، أدركت أن طفولتي وشبابي نشلا مني، حياتي ميلودراما كأنها من أفلام حسن الإمام".. جمل من حوار "الإمبراطور" تعبر عن واقع حياته المرير..

"المدمن بالفن قدّر عبقريته" قدّم أيضًا أدوارًا متميزة في التليفزيون، خاصةً حلقات "هو وهي" التي شاركته بطولتها سندريلا الشاشة العربية، وكذلك مسلسلات أخرى قدّمها "الغضب، لا شيء يهم، بستان الشوك، أنا لا أكذب ولكنى أتجمل، نهر الملح، والرجل الذي فقد ذاكرته مرتين"، إضافة إلى مسلسل إذاعي وحيد هو "دموع صاحبة الجلالة"، الذي رفض أن يشارك فيه لدى نقله إلى الشاشة الصغيرة، واتخذت أعماله مرحلة جديدة في أفلام "اضحك الصورة تطلع حلوة، ومعالي الوزير"، وتحدياته الكبرى في تجسيد الزعماء من خلال فيلمي "ناصر 56"، والذي أبهر الجميع في تقمصه للشخصية وكأنه بعث روح الزعيم الراحل من جديد، والأكثر إدهاشًا تحوله إلى شخصية الرئيس أنور السادات في "أيام السادات" والتي أداها بتقارب شديد معه أيضًا بالرغم من الاختلاف بين الزعيمين.

أُطلق عليه "صائد الجوائز" لدرجة أنه من كثرتها كان ينساها لدى أصدقائه أو في سيارات التاكسي، ويُقال إنها تجاوزت الثمانين جائزة محلية وعربية عن أدواره السينمائية، ومنها حصوله على جوائز عن أفلام: "العمر لحظة، شفيقة ومتولي، وراء الشمس، طائر علي الطريق، عيون لا تنام، امرأة واحدة لا تكفي، كابوريا، زوجة رجل مهم، البريء، أرض الخوف، ومعالي الوزير" وغيرها، ومنحه الرئيس الأسبق حسني مبارك وسام الدولة من الطبقة الأولى.

الزواج

تزوج من الممثلة الراحلة هالة فؤاد، وصرح لبعض أصدقائه قبل وفاته أنه ظلم زوجته وأم ابنه الوحيد "هيثم"، لذا قرر ألا يتزوج بعدها، وعلى الرغم من ذلك خاض عدة تجارب مع بعض الفنانات، منهن نجلاء فتحي، والتي أحبها أثناء تصوير فيلم "سعد اليتيم"، ثم نشأت علاقة حب مع الفنانة شيرين سيف النصر، عندما كانا يصوران معًا فيلم "سواق الهانم" عام 1994، ولكن العلاقة الأقوى في حياة "الإمبراطور" كانت علاقته مع الفنانة السورية رغدة، التي كان يريد الزواج منها في آخر أيامه لكنها رفضت، مشيرةً في مقابلة على قناة "الحياة" مع الإعلامي نيشان، عام 2014، إلى أنه طلب من مدير أعماله أثناء وجوده بالمستشفى أن يحضر المأذون ويتزوجها قطعًا لكل الألسنة التي أشاعت زواجهما سرًا، إلا أنها رفضت رغم حبها الشديد له، لأنهما كانا لا يصلحان كزوجين، كما أرادت أن تخدمه خلال فترة مرضه دون وجود رابط رسمي، وحتى لا يقال إنها وقفت بجانبه فقط لأنها زوجته.

حياة الترحال

رفض الاستقرار في منزل يعيش فيه، البعض يربط الأمر بحزنه لانفصاله عن زوجته هالة فؤاد، لعدم اتفاقهما في وجهات النظر قبل رحيلها، بينما يشير البعض إلى أن سبب الأمر يعود إلى زلزال 1992، الذي جعله يغادر بيته للبقاء في أحد الفنادق المطلة على النيل، واختار الغرفتين "2006 – 2007" بالدور الـ20، في نفس المكان الذي فضله قبله الموسيقار الراحل، بليغ حمدي، للجلوس بين أرجائه لتلحين إبداعاته.

حليم

منذ بداية الألفية الجديدة قلّ ظهوره وقدّم أربعة أفلام فقط، وهي: "أرض الخوف، أيام السادات، ومعالي الوزير"، وآخر أفلامه هو "حليم"، الذي أراد تقديمه نظرًا لكونه عاش نفس المعاناة التي عاشها العندليب عبد الحليم حافظ، حيث إنهما شريكان في رحلة الألم والفن، كل منهما تربى وعاش يتيما متألمًا وأصيبا بـ"البلهارسيا" من الترعة نفسها الموجودة في بلديهما "الزقازيق"، وحرص على إكمال مشاهد الفيلم دون النظر لآلامه، وقام بتصوير 90% من الفيلم وهو مريض وقام ابنه "هيثم" باستكمال المشاهد الباقية في الفيلم بعدما استعان به المخرج شريف عرفة.

رحيل "الإمبراطور"

حياة "الإمبراطور" في آخر 56 يومًا تتلخص في أنه كان يقوم بتصوير فيلم حليم لمدة 8 ساعات يومًيا فتعب كثيرًا ومكث في مستشفى دار الفؤاد، وتلقى على مدار ثلاثة أشهر أثناء فترة مرضه، حوالي مليون رسالة في مقر إقامته، وقد شملت الرسائل خليطًا من الدعوات بالشفاء ووصفات علاج بالطب التقليدي والشعبي وقصائد شعر واطمئنان على صحته وغيرها، وتسلم 3250 طردًا من جميع أنحاء العالم، يحمل بعضها "حبة البركة" من اليمن، و"مياه زمزم" من السعودية، و"أعشابا طبية" من الصين والسودان، و"نباتات برية" للعلاج من موريتانيا، وغذاء ملكات النحل، بالإضافة إلى آلاف المصاحف والسبح.

وفي أغسطس 2016، كشف طبيبه ياسر عبد القادر، اللحظات الأخيرة من حياته، موضحًا أنه كان مصابا بالسرطان لشراهته في التدخين، وأدى مشهدا تمثيليا مع ملك الموت، حيث تكلم في حوار أمامه مع "ملك الموت" وطلب منه أن يقوم بتجهيز "صوان العزاء" ومن ثم يعود إليه، موضحًا أنه أصيب بالعمى قبل وفاته، وهو ما أدى لتدهور حالته النفسية، وطلب التكتم على الخبر، ثم استسلم جسده النحيل للمرض بعدما انتشر في الرئة والكبد، قبل أن تنتهي حياته ومسيرته على سرير داخل مستشفى دار الفؤاد.

في 27 مارس 2005، ​رحل وهو لا يمتلك إلا 130 جنيهًا، بعدما تصدق بمعظم أجره عن فيلم "العندليب" لعلاج فنان شاب أُصيب بنفس المرض، كما دفع نفقات العُمرة لثلاثة موظفين في المستشفى.. رحل "الإمبراطور" تاركًا وراءه ما لا يستطيع غيره تحقيقه من مسيرة لا يمكن تكرارها.

شارك الخبر على