سبعون عاما على النكبة.. النظر إلى بعض ما جرى

حوالي ٦ سنوات فى التحرير

تحل في منتصف شهر مايو المقبل، الذكرى السبعون للنكبة، حاملة معها مخططات يجرى الترويج لها تبدو وكأنها مرحلة أخرى في تصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية، وإذا السبعون يبدو رقما مسمطا قد لا يعنى شيئا بمفرده، فهو قد يكون مجرد مؤشر على فترة زمنية، لكن ما جرى خلالها من وقائع، في حال التدقيق فيها والنظر إليها بصورة مجملة، مهولا، خاصة لجهة ما تغير من مفاهيم وقيم وعلاقات، وربما بات الخطر الأكبر من هذه المتغيرات أن الجانب الأعظم من الوقائع المادية، التى جرت أضحت منسية، أو شبه منسية على الأقل.

في هذه المساحة سنحاول -على مدى أشهر ربما- أن نستعيد بعض المحطات الرئيسية في مسار النكبة، ولنبدأ بالبحث وتحديد الإطار الزمنى والمكانى بدقة، وتحديد مفردات وعناصر الموضوع.

الآن، يبدو أن النكبة لم تعد -كما قال مصطفى البرغوثى قبل ثماني سنوات، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية- "محددة بزمن معين أو بقعة جغرافية بعينها من أرض فلسطين، وإن كانت البداية قد حملها لنا عام 1948 بكل ما فيها من آلام ومعاناة، لأن المشروع الاستيطاني الصهيوني لم يتوقف عند ذلك التاريخ، بل استمر واتسع من النكبة إلى النكسة، ومن النكسة إلى يومنا هذا، هنا مثلما باتت الأرض الفلسطينية مهددة بالنهب والمصادرة لغرض الاستيطان والجدار العنصري والطرق الاستيطانية العنصرية، فإن الوجود الفلسطيني على أرضنا التاريخية بات هو الآخر مهددا أكثر من أي وقت مضى، رغم قناعاتنا الراسخة بأن ترحيلنا أو رحيلنا ليسا واردين في حسابات شعبنا بعد كل ما حل به".

لكن في الأيام والشهور وربما السنوات الأولى كانت النكبة تعنى وقائع مادية محددة، وإجراءات وقرارات محددة كذلك، يمكن تقسيمها إلى قسمين مترابطين، يبدأ أولهما بصدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 فى 26 نوفمبر 1947، والذى عرف بـ"قرار التقسيم"، كانت فلسطين وقتها تحت الانتداب البريطانى بقرار من عصبة الأمم كنتيجة مباشرة لانتصارها على الدولة العثمانية فى الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، وجاء قرار 181 ليقرر تقسيمها إلى ثلاثة أقسام، ويقرر تأسيس دولة عربية فلسطينية على 45% من فلسطين، وتأسيس دولة يهودية على 55% من فلسطين، وأن تقع مدينتا القدس وبيت لحم في منطقة خاصة تحت الوصاية الدولية، بهذا القرار "الدولى" ولدت "النكبة"، وكان تم القسم الأول فى اليوم الذى انتهى فيه الانتداب، 15 مايو 1948، وانسحب الجيش البريطانى من كامل فلسطين، وفى ذلك اليوم بدأ القسم الثانى، بإعلان الصهاينة تأسيس دولة "إسرائيل"، ودخول ستة جيوش عربية إلى فلسطين (مصر، سوريا، لبنان، الأردن، العراق، السعودية)، وتنشب الحرب التى انتهت إلى توقيع أربع اتفاقيات للهدنة بين أربع دول عربية وإسرائيل، بدأتها مصر فى 24 فبراير 1949، لبنان 23 مارس 1949، الأردن 3 أبريل 1949، سوريا 20 يوليو 1949.

لكن أغلب الدارسين لتاريخ الصراع العربى الصهيونى يعتبرون أن "مقدمات" النكبة لها أهمية كبرى، وأن الاكتفاء بدراسة الوقائع التاريخية بداية من قرار التقسيم سيكون خطأ منهجيا كبيرا، ثم يتخلفون فيما بينهم على المدى، الذين يعودون إليه، مع إجماعهم على أن وعد بلفور (2 نوفمبر 1917) حدث مركزى للغاية متلازم مع أحداث أخرى: الحرب العالمية الأولى، مراسلات حسين مكماهون، اتفاقيات سايكس - بيكو، الثورة العربية الكبرى، وهناك قسم من هؤلاء يرجع ويفترض ضرورة الرجوع إلى بدايات الحركة الصهيونية، وبالأخص تلك الجهود التى قادها تيودور هرتزل (1860 - 1904)، وتأثير كتابه "الدولة اليهودية" (نشر سنة 1896)، وانعقاد المؤتمر الصهيونى في بازل بسويسرا عام 1897.

فى مراجعتنا التالية، حيث نعرض لأهم الكتب التى تناولت تلك الأحداث لن نلتزم بتتبع الوقائع كما جرت أى من أولها إلى آخرها، فقد يكون هناك قفزات زمنية، فلربما كشف كتاب صدر حديثا بعض جوانب كانت خافية فى البدايات، لكن سيبقى مهما أن نعيد نشر جانب من الوثائق الهامة، التى تمثل الآن مرجعيات متفق عليها، مع التنبيه على أن تقييم الوقائع التاريخية يجب أن لا ينجرف بعيدا وراء ما أفضت إليه المواقف حيالها وقت وقوعها، ولنضرب مثلا بقرار التقسيم، فقد طرح القرار على التصويت داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكانت نتيجة التصويت كالتالى: ثلاثة وثلاثون صوتا إلى جانب التقسيم، وثلاثة عشر صوتا ضدّه، وامتنعت عشر دول عن التصويت، وغابت دولة واحدة.

والدول الـ33 التي وافقت على القرار هي: أستراليا، النرويج، أيسلندا، فرنسا، فنلندا، الولايات المتحدة، كندا، الاتحاد السوفيتي، الجمهورية الأوكرانية السوفيتية الاشتراكية، جمهورية بيلاروس السوفيتية الاشتراكية، الدنمارك، السويد، نيوزيلندا، بولندا، تشيكوسلوفاكيا، ليبيريا، الفلبين، جنوب أفريقيا، باراجواي، فنزويلا، أوروجواي، بيرو، بنما، كوستاريكا، البرازيل،  جمهورية الدومينيكان، الإكوادور، جواتيمالا، هايتي، نيكاراجوا، بيرو، هولندا، لوكسمبورج.

والدول الـ13 ضد القرار هي: أفغانستان، إيران، تركيا، باكستان، السعودية، سوريا، العراق، كوبا، لبنان، مصر، الهند، اليمن، اليونان. والدول الـ10 التي امتنعت عن التصويت هي:  الأرجنتين، تشيلي، كولومبيا، إلسالفادور، هندوراس، المكسيك، جمهورية الصين، إثيوبيا، المملكة المتحدة، يوغوسلافيا.

الدولة الغائبة هي: تايلاند.

الآن أيجوز السؤال: لماذا لم تقبل الدول العربية والإسلامية بالقرار؟

يجوز طبعا كل سؤال، لكن القرار كان ظالما بكل مقياس إنسانى ممكن، وهذا أحدها: كانت نسبة السكان اليهود في فلسطين عام 1947 هي 31.7%، بينما نسبة الأراضي التي كانوا يمتلكونها كانت فى حدود 6.5%، ومع ذلك أعطاهم قرار التقسيم 55% من مساحة فلسطين، وإذا عدت عشر سنوات للخلف فقط أى إلى منتصف ثلاثينيات القرن العشرين، أو تحملت فعدت إلى بداية القرن، فلن تتجاوز نسبة اليهود إلى سكان فلسطين الـ5%، الباقون كانوا مهاجرين فعلت الصهيونية والاستعمار كل ما فى وسعه كى يجبرهم على الهجرة إلى فلسطين.

ويمكن أن يطرح سؤال آخر، ولأن كل سؤال ممكن فسيكون السؤال: لماذا حاربت الدول العربية فخسرت جانبا كبيرا مما منحه قرار التقسيم للفلسطينيين، فعند نهاية الحرب بتوقيع اتفاقيات الهدنة كانت القوات الصهيونية قد سيطرت على 77% من مساحة فلسطين، لماذا حاربت ولماذا خسرت؟ ولماذا لم يعلن الفلسطينيون دولتهم وقتها ويتعاملون بواقعية مع وقائع ظالمة ظلما جليا؟ هذه أسئلة تبدو بديهية لمن لا يرد إلى ذهنه سوى تلك السلسلة الطويلة من المآسى، فلقد عملت الحركة الصهيونيّة منذ عشرينيات القرن الماضي على ضرب الوجود الفلسطيني بدءا من المجازر التي رافقت النكبة، مرورا بالنكسة، وما بينهما من تهجير قسري للشعب الفلسطينى في أصقاع الأرض، وليس انتهاءً بما يجري اليوم من مصادرة للأراضي، وهدم للمنازل، وتهويد للقدس والمقدسات، وترويع للشعب الفلسطينى، حتى وصلت الوقاحة الإسرائيلية إلى حد تشريع قانون بشأن التواجد الفلسطيني في الضفة الغربية بغرض تفريغ الأرض ومنع التواصل بين أبناء الشعب الواحد في الضفة وغزة والقدس والداخل.

لكن أذهان العرب والمسلمين والفلسطينيون وقتها، وربما ما زال بعضهم اليوم، يتخيل شيئا مختلفا، وتسكنه تصورات، وتحكمه علاقات مفارقة للواقع، وهذا بعض ما سنحاول التطرق إليه.

شارك الخبر على