الأخلاق والسياسة.. الأمل الكبير (١)

حوالي ٦ سنوات فى المدى

  غالب حسن الشابندريتطلع الشعب العراقي الكريم إلى حياة جديدة، وذلك بعد هذا العناء الطويل الذي امتد لعقود من السنين، ذاق فيها الويل والذل والهوان، حرم من أعظم نعمة في الوجود، ألا وهي الحرية، مما يعني أنه حُرم من تحقيق ذاته، فإن الحرية جوهر الحياة الكريمة.يتطلع الشعب العراقي الطيّب إلى حياة أخرى، حياة السلام، والوئام، حياة العطاء والإبداع، وذلك بعد ذلك الليل البهيم، بعد تلك السنين العجاف التي فقد بها الفرد العراقي كل قدرة على التفاعل مع الحياة بإيجابية وشفافية وأمل.يتطلع الشعب العراقي إلى حياة ديمقراطية، حياة يسودها الاحترام، والمساواة، المساواة في الحقوق والواجبات، أمام القانون، أمام كل استحقاق، وذلك بعد تلك السنين الجافة، حيث التمييز الطائفي والقومي والعنصري والعائلي، الأمر الذي سبّب الكثير من الشكوك المتبادلة بين أبناء الشعب الواحد، الوطن الواحد، الدين الواحد، المذهب الواحد.يتطلع الشعب العراقي إلى حياة منفتحة، حياة نشطة بالفكر، بالشعر، بالمعرفة، بالرأي، بالمفاهيم، بالحوار، بالكتاب، وقبل كل ذلك حياة غنية بالخبز، وذلك بعد سنين جدب، عقيم، تحتل كلمة (قف) مفاصل الطرق، وبدايات الساحات الكبيرة والصغيرة، وأبواب الدوائر...بعض الناس يقولون إن هذا قدرنا، حكم ديكتاتوري، حكم فردي جائر، لا خلاص، لا أمل، لا تطلّع، لنعد إلى التأريخ ونرى.ليس لنا نقاش مع هؤلاء، فإن شعوباً هذه سجيتها لا يمكن أن تكون مدنها عواصم الدنيا، ولا يمكن أن تكون مركز أكبر امبراطورية في التاريخ، مهما قلنا عنها. لا يمكن أن تنجب مثل المتنبي والكندي وابن النفيس، مثل محمد باقر الصدر ومصطفى جواد وجواد علي وكاظم البحراني والسياب وغيرهم من أفذاذ الفكر والشعر والعلم...ننطلق من حقيقة أن الشعوب قادرة على أن تصنع قدرها، ونمضي على هذا المنوال والله هو الذي يوفق العاملين في سبيل الخير.نعم، لقد توافد على العراق حكّام ظلام، قتلة، من حجاجها ويزيدها وصدامها، ولكن بقي الشعب العراقي هو الشعب العراقي، يعمل من أجل حريته وسعادته وكرامته...أليس كذلك؟الوجه الثاني للإصلاح حقيقة قوية ساطعة، تجربة حاضرة في صميم الواقع، تلك هي أن تقدم الأمم والشعوب يعتمد في الدرجة الأولى على اخلاص وكفاءة الجهاز الحاكم، حتى في مجتمع المؤسسات، حتى في أوربا، بل في شمال أوربا، حيث الحياة المرفّهة إلى حد كبير، حيث السلام، حيث الأمان، حيث الصحة، حيث الحرية، حيث التقدم، فإن دور الحاكم كان ولايزال قوياً شاخصاً.نعم، لا أنكر دور النظام السياسي، فإن الديكتاتورية عقيمة، وأن الثيوقراطية كسيحة، وأن حكومة الحزب الواحد مدمّرة، قاسية... فيما يشخص النظام الديمقراطي كنموذج متقدم، يُقال عنه أهون الشرور على صعيد قيادة الناس، وتسيير شؤون الدولة...لا شك في أهمية النظام...ولكن ما قيمة نظام صالح في غاية الصلاح، ولكنَّ القائمين عليه لصوص، دمويون، قتلة، أشرار، لا يهابون حريجة دينية، ولا يهابون وعيد خالق عليم، ولا يعيرون أهمية لحساب شعب، ولا لمحاكمة تأريخ ؟ كم دستور ودستور كُتب بماء الذهب، ولكن ديس بأقدام العسكريين الطغاة، ومزّق علناً على رؤوس الأشهاد، بلا خوف ولا وجل، واستهتر به مغامرون سياسيون، وتجّار سياسة محترفون؟ليست القضية هي دستور وحسب.ولا هي قوانين مكتوبة على ورق صقيل مغلّفة بغلاف ذهبي.بل هي إضافة إلى ذلك رجال يسهرون على مصالح الناس، يخافون محاكمة التأريخ، يتوجسون من خيانة الأمانة، تسامت ضمائرهم، تعلّموا الصدق من أهليهم، ورثوا القيم تعلماً وتلقيناً وإيماناً...لا نتكلم عن الأخلاق هنا كماهية وفلسفة وعلم، بل عن الأخلاق كتجربة في الحياة، وكطاقة هائلة في صيانة الحقوق، وتأدية الوظيفة.يشترط الإسلام في الحاكم أن يكون تقياً، ورعاً، شجاعاً، ذا قلب رحيم وإرادة صلبة، عادلاً، يحكم وفق مقاييس العدل، يتجنب الظلم عن سابق فكرة وإرادة....هل جاء ذلك عفوياً؟هل جاء ذلك مزاجاً أخلاقياً صرفاً؟لا...هي فلسفة عميقة، فإن الذي لا يصدق مع صاحبه في كلمة لا يصدق مع شعبه بحكم، وأن من لا يؤتمن على قنطار لا يؤتمن على خزينة، وأن من لا يخلص لأمه وأبيه لا يخلص لأمة كبيرة... لسنا في مرحلة الحكم المؤسساتي العظيم، ما زلنا متخلفين عن هذا المستوى الرائع، وبالتالي، نحتاج إلى الحاكم العادل هنا كضرورة في مقابلة هذا النقص الرهيب، فضلاً عن كون ذلك قيمة أخلاقية بحد ذاتها، كما أن مما تصاف عليه العقلاء أن الحاكم العادل نعمة، وهو خير من الحاكم الجائر...هل في ذلك شك؟إن الناس يترافعون عند القاضي المشهود له بالنزاهة والعفّة والشرف حتى إذا كانت مهارته العلمية دون المستوى المطلوب، تلك غريزة بشرية متحكمة في النفوس، أو عادة ركبتها فينا أخلاقنا وقيمنا وتأريخنا، فكيف إذن بإدارة شؤون بلاد، بلاد مثل العراق؟لا ننطلق في ذلك من قيم أخلاقية بسيطة، بل من قيم أخلاقية حضارية تتواصل مع مهمة الحاكم، كموجّه ومرشد وقائد ومنفذ وحامي ورائد ومعلم...لا نتعامل مع أخلاقية رب بيت، أو قائد فرقة عسكرية، أو مدير شركة تجارية، بل مع حاكم، حاكم يحكم عشرات الملايين من الناس، مسؤول عن حمايتهم وحرماتهم وحقوقهم وسلامهم وأمنهم...نعم.نتحدث عن أخلاق الحكام ليس بلحاظ ما هم عليه، بل بلحاظ ما يجب أن يكونوا عليه، فإن شعوب العالم الثالث ومجمل الأوضاع التي نمر بها، تحتّم هذه المعاينة في خصوص الحاكم.حقاً هناك سؤالان مهمان ونحن نتحدث عن مسألة الحكم في العراق، الأولى هوية النظام السياسي، وقد حسم فيه الأمر، عراق جمهوري ديمقراطي تعددي، والعراق بلد متعدد الأديان والأعراق والقوميات، والناس متساوون في الحقوق والواجبات، وإلى ما هناك من قيم وتصورات صارت مشتركة بين العالم تقريباً، والثانية هي الحاكم، ما هي أخلاقه، وما هي مؤهلاته الروحية، وما هو تأريخه من سفك الدماء، وما هي علاقته بالناس، وكم كان عطاءه للناس.

شارك الخبر على