«التحرش» بين عصرين

حوالي ٦ سنوات فى التحرير

أصبح التناول لمفهوم "التحرش"، وتصنيفاته، في حياتنا العامة، دقيقا للغاية، من قبل المستخدمين والمستخدمات له، طبعا بجانب تناوله القانوني. ومع هذا التدقيق والتناول والتداول والاستهلاك الواسع للمفهوم ازداد السور ارتفاعا وتعمقت الهوة بين المرأة والرجل داخل سياقات عديدة. ربما هو ارتفاع طبيعي للسور، بعد فترات وحقب من الاندماج الظاهري، والانفجار المكتوم الذى صاحبها. في تلك الحقب المكتومة كانت المرأة تعيش تحت احتلال عاطفي وجسدي، مجازي، من قِبل الرجل والمجتمع. كان لهذا الاحتلال العاطفي، مزايا وأسباب. أنه جعل القضية مائعة وتثار برعونة أو بهدف نهائي هو تحسين بعض شروط هذا الاحتلال العاطفي!

وسط هذا الاحتلال العاطفي المجازي، كان قانون التحرش يقف وسط رمال متحركة، ليس له حدود واضحة مستخدمة داخل سياقات وطبقات المجتمع المختلفة. كان جسد المرأة كله خاضعا للتصنيف والمراقبة والاستباحة من قبل الرجل وتصورات الدين ونظريات السياسة والتحرر، رغم كل هذا فلم يكن له هذا الحضور الدقيق في أدبيات الحياة اليومية، أو تلك الحدود التى ترسم جغرافيته الآن.

أقرأ يوميا عن قضايا تحرش، وعن اعتذارات عن هذا التحرش من قبل المتحرشين أنفسهم. في البداية كان الشارع هو مصدر هذه التحرشات، ثم انتقلت إلى داخل الوسط الفني، ومن بعدها انتقلت للأوساط السياسية. كلها أماكن يمكن أن يحدث داخلها تحرشات باختلاف المسبب، كونها أماكن لها قوانين أخلاقية ملتبسة، أو تضع أقنعة على ممارساتها اليومية. ولكن الجديد حاليا هو "ثقافة الاعتذارات"، التي ميعت القضية بعيدا عن المحاسبة، وأحيانا أكسبت هذا المتحرش المعتذر حصانة أخلاقية ربما توازى فعله تماما كأن شيئا لم يحدث، وعفا الله عما سلف. طبعا قوة الاعتذار ستكتسب بريقها وفعاليتها وحصانتها، فقط، وسط ثقافة "التحرر" التي ترعرع "التحرش" بين أحضانها من قبل.

الآن هناك حالة  فوران اجتماعي مصحوبة بوعي نسائي قوي حول هذه القضية، ربما هى لحظة فض هذا الاحتلال العاطفي والدخول في مرحلة جديدة تماما. وجزء من هذه المرحلة الجديدة هو دخول المجتمع برمته داخل حدود وصياغات "الفردية"، التى بطبيعتها تعبر حدود الجنس والنوع.

                                              ***

في حقبة التسعينيات كنت أرى مجموعة من المثقفين المعروفين في أحد بارات القاهرة وفي لحظات نشوة عارمة يقومون، مثلا، بتقبيل صديقات قديمات لهم، يرفعن الحاجز بين الجسدين، حتى نوع الهزار اللفظي. ربما فعلهم هذا يتجاوز بمراحل ما يحدث الآن، ولكن وقتها لم يكن لجسد المرأة هذه "القداسة" أو "الحدود الواضحة" كما هو الآن. وبالرغم من سطوع نظريات التحرر اليسارية وقتها، فقد كان جسد المراة يخضع لمساواة ظاهرية مع جسد الرجل تحت  قناع/ غطاء سياسي.

حاليا داخل سياقات ومجتمعات الشباب ووسط هذه الترسانة من التحفظات والأشواك والحدود المنصوبة حول جسد المرأة؛ أجد تداخلا وانفتاحا وخفة فى تبادل الأحضان وفي إذابة هذه المنطقة المشتركة بين الجسدين. بالتأكيد أنها تتم بالتراضي أو تحت مسمى الأخوية، الحب، الصداقة، ولكن بالتأكيد نشأت منطقة جديدة ملتبسة بين الرجل والمرأة، ربما تكسر هذا السور العالي، ولكنها في الوقت نفسه منطقة ملتبسة ومتداخلة ولا يقف وراءها سوى رغبة الطرفين فى التعرف على الجسد الآخر، وبدون أى غطاء سياسي كما كان من قبل.  

برغم هذه الأسوار الجديدة، بين الرجل والمرأة، هناك منطقة متماهية متداخلة بشدة بين الفتى والفتاة، وليس لها تصنيف، داخل هذه المنطقة الملتبسة يمكن أن ينشا أى شيء، أو أي سوء فهم جديد.

                                         ***

أرى الآن الأسوار تبنى بقوة، ربما لتعيد ترسيم هذه المنطقة الملتبسة والمتداخلة القديمة، وربما تستمر العلاقات الآن بين الرجل والمرأة كهدنة مؤقتة لاستمرار النوع والجنس، أو بقوة التجاذب الغريزية. ولكن لا شك أن الهوة تتعمق بكثير من الالتباس والفردية والظلم أيضا. إما أن تعود العلاقة بعد ذلك على أسس جديدة ويكون لهذا الاتجاه الغلبة، أو يتم الانفصال النهائي ويعلو السور أكثر وأكثر، ويزداد سوء الفهم بين الجنسين لمنطقة معزولة يدخل إليها العالم الآن: أن يصنع حدودا  بين كل أطرافه، لا تحمي إلا الخواء المتبقي من الشخصية والفردانية والروحية والتقديس.

أعتقد أننا ذاهبون لهذه المنطقة الجديدة وبسرعة الأسوار التى نبنيها، والتي نهدمها، والتى لا يد لنا فيها. هناك المزيد من التمييز، وربما الكراهية أيضا، ولا شافع لنا من هذا المصير. إنها إحدى خطوات التقسيم والعزلة التى تسم كل المجتمعات الآن، وخاصة مجتمعنا بعد ميراث طويل من عدم التساوي والاحتلال العاطفي والجسدي للمرأة وجسدها!!

لا أجد طريقا آخر للتراجع أو لتعديل المسار، إنها قضية تعدت مشكلة ظلم أو عدالة الرجل، أو سلطة الذكورة نفسها. لقد استيقظ ترسيم الحدود بين الجنسين في مصر مرة واحدة، في لحظة ترسيم عالمية في غاية القوة والقسوة، مخلوطة بالطبع بشبهة رأس مال مستغل، من ناحية العزل والفردية وتكسير أى "وحدات اجتماعية كبيرة" تسعى لتكبر وتعيد "الاحتلالات العاطفية" القديمة.

                                               ***

في المستقبل بعد انتصار المرأة، الذى لا أشك فيه، وشغلها لكامل حيز "فرادنيتها"، هل سيعود المجتمع من جديد ويناقش مفهوم "الغريزة"، ومسئوليتها، وكل المحاولات التى باءت بالفشل لكبح هذا "القرد العاري" الذي يعيش بداخلنا؟ ربما نجد له طرقا أخرى لنحافظ عليه، أقل استغلالا واستهلاكا وأكثر إنسانية، ربما كنا ضحايا أفكار "عصور مساواة حديثة" و"عصور تحرر حديثة" وضعت "الغريزة" في المكان الخطأ. 

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على