الأم... وأم الدنيا (جورج عبيد)

حوالي ٦ سنوات فى تيار

"الله أم"، أستعير تلك المقولة من القديس أفراهات السريانيّ المولود في بداية القرن الرابع الميلاديّ، وأسقطها على بهاء العيد. إنها لمسؤولية كبرى ملقاة على الأم حين يقف أيّ منّا عند هذا المعنى العميق والعظيم، "الله أمّ". في اللغة العربيّة وبمدلولها الإعرابيّ الله مبتدأ، وفي اللاهوت هو البدء والمنتهى، بل هو بدء البدء أو بدء كل بدء، وهو الألف والياء، وأم خبر. وفي اللغة العربيّة الخبر يماثل النعت أي الصفة مع كمال الجملة الإسميّة.
 
لماذا قال أفراهات "الله أم"، هل قصد تعظيم الأم  والأمومة، أو شاء أن يؤكّد بكلمة أم بأنّ الله جزيل الرحمة، وفي القرآن الكريم هو الرحمن الرحيم كما جاء في سورة الفاتحة، وقد اشتقّ اللغويون مصطلح الرحمانيّة من كلمة الرحمن. يسوغ لنا القول بأنّ أفراهات عظّم الأم بأنّ جعل الله صورة عنها بالرحمة والمحبّة. وقد انطلق فعل التعظيم عنده من عمق التجسّد الإلهيّ حين نزل الله كلمة في بطن مريم، واكتسى ناسوتيته منها وبالنزول جعل بطنها وكما قال يوحنّا الدمشقيّ أرحب من السماوات. إكتسب الله صفة الأم بهذا الحراك. وهذا ردّ صريح وفصيح على من ظنّ بأن الله "كجلمود صخر حطّه السيل من عل"، كما كتب الشاعر الجاهليّ امرؤ القيس، أي أنّه خالق قاس يحرّك ولا يتحرّك، بارد وغير حار، خال من العاطفة، جلاّد لا يرحم، عبثيّ، خلق الناس من العبث ليردّهم إليه. جاءت المسيحية بعد فترة تصحّر كبير وعميم، فقلبت التاريخ من جذوره، وكشفت بأنّ الله قادر أن يستوي في بطن امرأة ويجعل منه عرشًا، ويصير بالتجسّد والفداء أمًّا. التعظيم الكبير للمرأة أنّ الله نزل في بطنها، وفي مسيرته التي انتهت على الصليب لم ينفصل عنها، بل اكتسب صفتها فكان رئيفًا بها حتى الانسكاب والذوبان، فجعلها شفيعة وأمًّا للمسكونة، سمع كلمتها في عرس قانا الجليل، فحوّل الماء خمرًا، ولم يحرم الناس من فرح العرس، ناصر المرأة فجعلها صديقة له، مثل مريم المجدلية ومريم أم يوسي، ومريم ومرتا أختي ألعازر، رفض رجم المرأة الزانية بالحجارة من قبل اليهود فصرخ بوجههم موبّخًا "من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر". من هذه الأمومة فهم يسوع ما معنى حضور المرأة في التاريخ. إنها الأم المليئة بالحنان والرحمة، إنها الشقيقة والصديقة والحبيبة والزوجة، إنها الكائن-المصدر، وإذا ما انتفى المصدر بطل العالم والتاريخ كلّه.
 
المشهد العظيم الذي لا تضاهيه مشاهد في الوجود، حين علّق المسيح على الخشبة، حيث جاء يوحنّا الإنجيليّ مع مريم والدته، نظر السيد إلى يوحنّا قائلاً له هذه أمك، ونظر إلى مريم قائلاً لها هذا يا امرأة هذا ابنك. ومن ذلك الوقت أخذها يوحنّا إلى خاصته. لقد جعل يسوع مريم أمّ الدنيا والمسكونة. بهاء الأمومة يتجلّى عاليًا وراقيًا من هذه الصفة عينًا، لكونها تحمل ميزات الرقة والطيبة والحنان، من الأم بالذات تتجلّى الأصالة وتدرك المحبة بأعلى سماتها ودرجاتها. الأم عاطفة متأججة لا تلين ولا تستكين، تنظر إلى أولادها، وتجمعهم إليها، وتحميهم بموش عينيها، وتضمّهم إلى أحضانها. تلك هي صفات الأمومة وفي حقيقتها إنها صفات إلهيّة وليست محض بشريّة لأنها تجيء من فوق، من قلب الله وعقله، وهذا عينًا ما قصده أفراهات حين قال: "الله أم"، بمعنى أنه الرحمة والمحبة والحنان.
 
لقد انسكبت الرؤية هذه عليّ، من والدتي رحمها الله. كانت أمّي العقل والقلب في البيت، لقد أعطتني طاقة الإيمان والصبر والشجاعة، وفي اللحظات الجلّى والزاخمة كانت تحضنني. منها تعلمت الالتزام بمسيحيتي عن طريق الفطرة، وأتذكر تمامًا كيف كانت تقودني كلّ أحد وعيد إلى كنيسة دير القديس جاورجيوس في سوق الغرب. في هذه الكنيسة ومعها أدركت إيماني، إلى أن ذقته عن طريق الفكر والعقل، من خلال التصاقي بالمطران جورج خضر. ربيت على يديها وأحببت فيها صدقها مع نفسها ومع الناس المحيطين بها، ولم ينفصل صدقها البتّة عن رؤيتها التي غالبًا ما تكون صائبة وعاقلة وفي الوقت شفافة وصريحة بلا مواربات. علمتني أمي أن أحب الناس كلّ الناس، وفي الوقت عينه أن أميّز بينهم. حرصت عليّ كثيرًا، وقد واكبتني في كل تفصيل من حياتي، سهرت عليّ الليالي الطوال، وبخاصّة حين كنت أحضّر رسالتي الجامعيّة.
 
صدمت والدتي يوم رحل أخي فادي من هذه الدنيا، وقد كان مالئ الدنيا وشاغل الناس برقيّه، بعمله كمهندس باختراعاته... تحملت وزر المأساة في حياتها، إلى أن أقعدها الوهن ورحلت بعد ثلاث سنوات من رحيله وفي الشهر عينه أي تموز. شاهدتها ىخر مرّة لحظة النزاع، كانت لحظة رهيبة أن ترى انسلاخ الروح عن الجسد، المشهد بحدّ ذاته يشدّك لكي تتأمل في معنى الأمومة الخالدة فيك، تتحرك بك، وتجذبك إلى وجه الله في المرحلة الأخيرة. جمال صليبي والدتي عاشت طوال حياتها في قلب الله، تصلي أمامه، واتخذت من مريم العذراء شفيعة لها، وفي لحظة النزاع كنت مدركًا أنها ذاهبة إليه، تنظر إلينا دون كلام، ولكنها ممدودة بروحها إلى الباري العظيم، إلى أن استوت في مملكة المحبة.
 
يدفعني إيماني في عيد الأم لمعايدتها وكأنها تعيش بيننا، ويتجه إدراكي لكي أفهم أنها وأخي يصليان لنا ومن أجلنا. وعلى الرغم من ذلك، يشدني الحنين إلى عذوبة وجهها ونقاوة نفسها. أتذكر انني مع كل صباح باكر، أستيقظ لأشاركها فنجان قهوة، وأتناول الفطور معها ومع والدي ونتحدّث في أمورنا، كانت تلك متعتي. وفي هذا الزمان أستفيق من نومي "وأحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي" كما كتب الشاعر محمود درويش، فتتحرّك فيّ الطفولة. أتذكر غمراتها لي حين يعصرني الحزن والألم، فتزرع فيّ السرور والأمل. أتذكر الأعياد الحلوة، وقد كانت تصر على اجتماع العائلة وتحضّر بذاتها الطعام، أتذكر رفقتي لها في الصلوات في الكنيسة خاصّة في موسم الصوم الكبير وفي الأسبوع العظيم المقدّس. وفي هذا الأسبوع عينًا كنا نجتمع أخي وأنا ووالدي حولها لنساعدها في معمول العيد فنحسّ بالبركة.
 
مع أمي فهمت كيف يكون الله أمًّا بدورها. صفات الأمومة غير محجوبة عن الألوهة وعن المريميّة وهي الصفة الرديفة للأمومة، وتمتزج فيها قيم الطهارة بقيم الألوهة المنسابة إلى ذاتها كجداول بلورية عذبة ارتوينا منها ولا زلنا بحاجة إلى الارتواء. لقد رحلت من هذه الدنيا وبقيت في لقاء دائم معها. وينبع اللقاء ويسطع بيني وبينها من ضياء القيامة. المسيحيون المؤمنون بالمسيح يسوع مؤمنون بأنهم قياميون أي منتصرون مع المسيح. لقد انتصرت أمي على موتها بقيامة المخلّص، وكل من اعتمد بالمسيح لبس المسيح، اي لبس نصره. أمي لبست غلبته وأرجو منه تعالى أن يمتعها مع أخي ومع كل الأمهات الراقدات بنصره ونوره في مدى الكمال والجمال كلّه.
 
أمي ستبقين ظلي وحنيني مدى العمر كلّه إلى أن يجمعني الله بك وبفادي في ملكوت المحبة. أشكرك في عيد الأمهات على عطائك غير المحدود وسهرك عليّ بلا حدود، لن أضع ورودًا على قبرك، بل أضعها يوم المديح الأخير أمام أيقونة مريم، ألتمس منها الشفاعة وأعرف انها رفيقتك في الملكوت وهي أمّنا في هذه الدنيا وفي مدى الملكوت. وأشكر الله على أنه منحني زوجة وهي ام ولدي فادي، الزوجية فيها الكثير من الأمومة الطهور، وهي تظهر بحب كبير لابننا فادي في لحظات تبرعمه ومواكبته في طفولته، ولها مني باقات الحب والسلام.
 
ولأمهات لبنان كل الدعاء بأن يبقين على بهاء الأمومة متصادعات إلى الضياء، وللراحلات منهنّ صلاتي بأن يمكثن في ملكوت المحبة محضونين بالرضى الإلهيّ متوشحين بنوره العظيم واللقاء معهن متواصل في هذا العيد وفي كلّ عيد وبيقين العيد حتى بعد الرحيل...ألا بارككن الله وأبقى ربيعكنّ فينا زاهرًا إلى الأبد.

شارك الخبر على