الأحزاب في العالم الرقمي «٣ ٤»

حوالي ٦ سنوات فى التحرير

حالة الأحزاب السياسية تاريخيًا فى مصر مثيرة للاهتمام فى غالب مراحلها، من زاوية علاقتها بالتركيبة الاجتماعية وقواعدها التي تدعي أنها تمثلها وتعبر عنها وعن مصالحها الاجتماعية والاقتصادية، الملاحظ أن غالبها في المرحلة شبه الليبرالية كانت لديه الفرص الاجتماعية للحركة وبناء قواعد جماهيرية، حيث الحريات العامة والشخصية، والتعدد السياسي، وحرية تداول البرامج والأفكار والرموز والسلع السياسية، شكلوا سمت هذه المرحلة، إلا أن غالبهم لم يفلح في معالجة مشكلة نقص القواعد الاجتماعية، والاستثناء تمثل في حزب الحركة الوطنية المصرية الوفد.

يعود هذا النقص في الوعاء الاجتماعي الجماهيري إلى أن غالب هذه الأحزاب كانت ذات طابع فوقي، وتعبر عن قلة عند القمة الحزبية، وتعمل لمصالحها الاقتصادية من خلال نمط أحزاب القلة السياسية التي كانت تسند إليها عملية تشكيل حكومات الأقلية في مواجهة حزب الأغلبية الشعبية الوفد. هذا النمط من الأحزاب كان على علاقة جيدة مع القصر الملكي، والمندوب السامي البريطاني، رمز دولة الاحتلال. من هنا كان العزوف الجماهيري عنها نتيجة هذه الصلات، ناهيك عن أن الفئات الوسطى، والوسطى الصغيرة، كانت داعمة لحزب الأغلبية، لأنه كان يطالب بالاستقلال الوطني، والدستور معًا. من ناحية ثانية: كان حزب الوفد تعبيرا سياسيا عن أطياف اجتماعية/ طبقية متعددة، ناهيك بأنه كان تعبيرًا أمينًا عن الوحدة الوطنية بين أبناء الأمة الواحدة من المسلمين والأقباط، كجزء من التراث الديني والوطني العلماني لثورة 1919.

بدأ بعض التآكل في إطار حزب الوفد بسبب الخلافات السياسية الضارية بين بعض قادة الحزب التاريخيين، مصطفى النحاس باشا، ومكرم عبيد باشا، وانسحاب الأخير من الحزب، وشكل حزب الكتلة الوفدية، بعد أن قدم بيانا باسم الكتاب الأسود عن المخالفات المالية في مجلس النواب. لا شك أن خروج مكرم عبيد باشا ترك جروحًا في بنية الوفد ولدى بعض الأقباط. من ناحية أخرى، سيطرت "البورجوازية العليا"، من كبار ملاك الأراضي الزراعية، والطبقة شبه الرأسمالية على قيادة الحزب.

لا شك أن هذه الهيمنة "الطبقية" على الحزب أدت إلى بناء سياجات تحول دون وصول بعض أبناء الفئات الوسطى والوسطى الصغيرة من أعضاء الحزب إلى الهياكل القيادية. من ثم اتجه بعض الأقباط إلى تشكيل أحزاب مسيحية، وبعضهم الآخر إلى الأحزاب الشيوعية، وآخرون اتجهوا إلى سلك الرهبنة، وأصبحوا من قادة الكنيسة القبطية بعد ذلك مثل الأنبا شنودة الثالث، والأنبا غورغوريوس والأنبا صموئيل، والأب متى المسكين. لا شك أن هذه التغيرات أثرت سلبًا على حزب الحركة الوطنية المصرية، لا سيما منذ نهاية عقد الأربعينيات من القرن الماضي، وحتى حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952.

النظام التسلطي الذي أسسته جماعة الضباط الأحرار، اتخذ موقفًا مضادًّا من تجربة التعدد الحزبي، ومن ثم لجأ إلى إلغاء ومصادرة الحياة الحزبية التعددية، واعتمد على صيغة الحزب الواحد، من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي ثم إلى الاتحاد الاشتراكي العربي، وهو نموذج سياسي ساد في عديد من التجارب السياسية في الدول الاشتراكية، ممثلاً للطبقة العاملة ومفهوم ديكتاتورية البروليتاريا أساسًا، أو بعض الصيغ الأخرى كالتجربة الصينية التي اعتمدت على مفهوم ماوتسي تونج عن تحالف الطبقات الثورية المعادية للاستعمار، وبعضها الآخر على مثال سالزار في البرتغال، أو تجربة بيرون في الأرجنتين.

التجربة المصرية في التنظيم السياسي الواحد اعتمدت على مفهوم التعبئة السياسية والاجتماعية، ومصادرها الأيديولوجية اعتمدت ميراث حزب الوفد في تداخل عديد من القوى الاجتماعية في تركيبة الوفد، ثم في بعض المصادر الأخرى، من مثيل ماو، وسالزار، وبيرون على التمايز بين بعض هذه النماذج الحزبية، إلا أن جوهرها كان يتمثل في مفهوم التحالف الطبقي -تحالف قوى الشعب العامل- بين قوى اجتماعية مختلفة، تحت مسمى تحالف قوى الشعب العامل، والقوى الثورية. هذا النموذج التعبوي هو الأقرب إلى وراثة التعددية السياسية والحزبية ومصادرتها أو تأميمها لصالح التحالف السياسي الجديد، وذلك على الرغم من أن هذه الصيغة أدت إلى موت السياسة، وذلك لصالح نموذج سياسة اللا سياسة، أو نزع السياسة، ومن ثم تأسيس ما أطلق عليه دولة الإدارة، أي أولوية النزعة الإدارية، البيروقراطية، في إدارة أجهزة الدولة المصرية وسلطاتها على العمل السياسي التعددي بكل محمولاته وقواعده وصراعاته ومنافساته. بعض الماركسيين -إبراهيم فتحي- أطلق على هذه الصيغة الرأسمالية البيروقراطية كوصف تحليل ماركس على طبيعة النظام الاجتماعي / الاقتصادي.

شكلت صيغة التنظيم السياسي الواحد، المعبر اسميا عن تحالف قوى الشعب العامل الوجه الآخر لدولة/ نظام الإدارة، ومن ثم ظاهرة موت السياسة في مصر. ترافق على هذه الصيغة الإقصائية عزل سياسي لبعض قيادات الأحزاب السياسية ما قبل يوليو 1952، واعتقال بعض كوادر الأحزاب الماركسية عام 1959، وبعضهم انضم إلى الاتحاد الاشتراكي العربي -في مواقع جزئية / أولية بعد الإفراج عنهم فى عقد الستينيات-، ومن الشيق ملاحظة أن إدارة الحزب الواحد، كانت تعتمد على آلية التقارير الأمنية في شأن الأعضاء، من ناحية ثانية كان دور الحزب تعبويًّا بامتياز، ومن ثم افتقد إلى الآليات الديمقراطية من أسفل قاعدته الحزبية إلى القيادات العليا والوسيطة داخله. من ثم كانت القرارات تصدر من أعلى الهرم القيادي إلى أسفل، وغالبًا لتأييد الخط السياسي للدولة / النظام / الرئيس/ الحكومة، من ثم كان دور المساندة والدعم السياسي في إطار التعبئة الجماهيرية، هو دور الحزب، وليس التعبير السياسي والاجتماعي عن التعدد في المصالح والرؤى السياسية داخله، لأنه لم يكن سوى أداة سلطوية لتنظيم الدعم والمساندة السياسية.

في تطور تنظيم الاتحاد الاشتراكي العربي ظهر تنظيم سري مكون من بعض أعضائه، تحت مسمى طليعة الاشتراكيين، ويبدو أن بعضا من الحوار كان يجري في نطاقه ويطلع عليه رئيس الجمهورية -جمال عبد الناصر- وأجهزة الدولة، إلا أن صدى هذا التنظيم السري ظل مستورًا وغير علني.

استمرت ظاهرة موت السياسة في ظل حكم الرئيس أنور السادات حتى بعد تحول التنظيم الواحد إلى ثلاثة منابر لليمين والوسط واليسار، ثم تحولها إلى أحزاب ثلاثة، ورثت جميعها وعلى نحو نسبي تقاليد الحزب الواحد، من حيث القادة، وفي الهيكل القيادي الأعلى شبه المغلق، والقاصر على المجموعة التي قامت بتأسيس الحزب، وباستثناء بعض الأحزاب كالتجمع الوطني التقدمي الوحدوي -المكون من ناصريين وقوميين ناصريين- كانت الحوارات الداخلية والآليات الديمقراطية بين المستويات التنظيمية لهذه الأحزاب شكلية الطابع، ومن ثم كانت القرارات السياسية فوقية الطابع، وخاصة في حزب الوسط ثم الحزب الوطني الديمقراطي اللذين ورثا التنظيم السياسي الوحيد، في كل تقاليده وآلياته السلطوية في أثناء تاريخ قيادته الشكلية للحياة الحزبية المقيدة حتى حل هذا الحزب بعد 25 يناير 2011.

الحياة الحزبية والتعددية السياسية الثانية بعد إقرارها، والثالثة بعد تجميد حزب الوفد بقيادة فؤاد سراج الدين ثم عودته، لم تكن تعبيرًا عن خيار ديمقراطي حقيقي للسلطة السياسية الحاكمة، وإنما كانت أقرب إلى "الماكياج السياسي" للنظام لتحسين صورته شكليًّا في إطار علاقاته بالدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وأجهزة الإعلام الكبرى. من هنا ظلت ظاهرة موت السياسة تعبيرًا عن سطوة نمط من "التسلطية السياسية الشرقية"، التي تعكس انفراد رئيس الجمهورية السادات، ثم مبارك بالسلطة وظاهرة اختزال الدولة والنظام في رئيس الجمهورية، ومجموعة من مراكز القوى الفعلية حوله من بعض المقربين منه، وأجهزة الدولة العميقة  -نقولها مجازًا-، ومن ثم كانت هذه الظاهرة الاختزالية تعبيرًا عن دولة الإدارة والبيروقراطية، وليس تعبيرًا عن تعددية سياسية عن قوى اجتماعية واتجاهات سياسية سائدة. من ثم كان الركود السياسي هو أبرز ملامح الحياة الحزبية المعتقلة داخل أسوار الأحزاب، وفي جرائدها فقط.

ثمة أسئلة تتبادر إلى ذهن الباحث والكاتب والمتابع للتجربة الحزبية المصرية، تتمثل فيما يلي:

ما أثر موت السياسة وموت الأحزاب في الحياة الحزبية المعتقلة؟
ما أزمات الأحزاب السياسية قبل وبعد 25 يناير 2011؟
ما أثر الدمج الجزئي لجماعة الإخوان المسلمين على الحياة الحزبية المعتقلة؟
ما دور الجماعات الاحتجاجية على الأحزاب السياسية؟
أثر المرحلة الانتقالية الثالثة على الأحزاب السياسية؟
أثر الثورة الرقمية على ظاهرتي موت السياسة، والموت السريري للأحزاب السياسية؟

سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة في المقال القادم.

شارك الخبر على