التحوّلات الثقافية وضرورة الحضور الأكاديمي

حوالي ٦ سنوات فى المدى

ياسين طه حافظفي متابعة سريعة لتاريخ الأدب العراقي، يصحبنا دائماً أدب الاحتجاج أو الاستياء أو التحريض. قد يكون هذا سلوكاً شعرياً عاماً أو طريقاً ممهداً لفكرة قادمة، وقد يكون، وهذا هو الأبرز، طريق تنوير وتحديث واستحضار القوة والجماهيرية لطلب التغيير السياسي والاجتماعي.والملاحظ أن كل الاسماء الكبيرة في الشعر العراقي حققت مكانتها بهذا المضمون وظل التفاوت في الاقتدار الفني وسعة الأفق النسبية بين واحد وآخر.
وإذا أردنا بدايات تحول بسيط فيمكن أن نشير الى العمري والاخرس، وباستعارة دينية للسيد حيدر الحلي وصولاً الى الشبيبي محمد رضا والرصافي والصافي والزهاوي والجواهري. لا أحد إطلاقاً نهض بفنه الشعري وحده ولا تمتع بأفق انساني يتجاوز المحليات الضيقة تجاوزاً منهجياً، فكرياً وفنياً، ولكن قد تأتي بذلك انتباهات طارئة وضمن الاستطراد ..وإن تغير المستوى فنياً وثقافياً، لكنه ظل يعتمد ثيمة الاحتجاج والاستياء السياسي – الاجتماعي، وإن لم يشغل هذا كل اشعارهم. فيم تبقى اجتماعي عام وتقليدي.شهدنا تجاوز السياب لذلك في قصائد مهمة هي مجده الشعري وإن لم يفارق تماماً ذلك الاتجاه وذلك الاهتمام. بل إن ذلك الموضوع، مع التجديد فيه ظلت نسبته واضحة في شعره ومن المومس العمياء ، التي تشكل بدء التحول بسبب مداها الانساني النسبي مع ديمومة التزامها الاجتماعي. أما البياتي، رحم الله الاثنين، فقد كان تحوله أكثر وضوحاً والأفق الانساني الحداثوي هو الأوضح وإن نهض مثل سواه على الثيمة السياسية / الاحتجاج الثوري والبوح الشفيف بالاستياء والموقف المضاد. وقصائده حتى ذوات الظاهر الصوفي تشي إما بالرغبة بالثورة أو تعبر عن الخيبة الانسانية والانكسار الثوري. السؤال : هل يستطيع الأدب العراقي تجاوز هذا الطريق الموروث الى طريق جديد وموضوعات انسانية تتحدث عن الحياة والانسان والمصير والجمال في الإنسان والأشياء. أو تتحدث كما تحدثت أم الأدب الانساني، ملحمة كلكامش. وكما يتحدث شعراء العالم اليوم؟ الرواية أكثر تحرراً وتجرأت على موضوعات انسانية دقيقة ومهمة. وكشوفاتها مكاسب تجديدية حقة. ولا بأس ببقاء بعضها تعيش على الموضوعات الأولى أو في محيطها الاستيائي او الاحتجاج لكن بثراء فكري وثقافي. وهذا مسوّغ محترم وبعض من مظاهر التجديد. شعراً، وان لم يفارق الستينيون ذلك – الموروث كثيراً، لكنهم تجاوزوه فناً وشحنوه بخصب وبطاقات الحياة الجديدة. ثقافة عصرهم واشكالهم الفنية واضحة الحضور ايضا. مع ذلك فما تزال السياسة، بتعبير مباشر، او الازمات النفسية والفكرية الناشئة عنها او التي تصحبها، ما تزال حاضرة ويبدو انها مصدر كتابة سيظل زمنا آخر ما داموا محملين بأسى ووجع التجارب السياسية السابقة المخيبة واللاحقة المؤلمة. لكن اتضح غياب لهجة التحريض المباشر وصارت اشارات ادانة وكشف رداءات للحال الاجتماعي المحلي، الا استثناءات ، او اعترافات بخيبة وندم على تلف انساني اصابهم من الخوض في تجارب غامضة ومعقدة الاسباب والمصادر. بعض من الشعراء الشباب – فناً – بدأوا لا يبتعدون عن ذلك حسب بل يزدرون به. لا أحد يستطيع نكران أصوات تتحدث عن الانسانية الفردية ومتاعبها في الحياة المدانة وعن الطبيعة وحال الانسان في الكون. وقد يتفوق بعضهم اكثر فيتحدث بدلالات فكرية عن الألم والخسارة وعنف المواجهات، وهذه ثيمات سائدة في الشعر الحديث في العالم كله. كما أن الماضي الحاضر لم يعد مزاوجة شكلية ولكن تكنيكاً يعكس الضغوطات من الماضي والحاضر على الذات فضلا عن العذابات الناشئة من تناقض الواقع والحلم. واضح التحرك الى الجديد والاتصاف بالكثير من متطلباته. أما اللغة واساليب الكتابة فهي تحتاج الى بحوث علمية جادة لتقديرها لا الى آراء فردية وتحبيذات. إن عدداً كبيراً يكتبون الشعر اليوم ومن هذه كتابات جيدة بلا شك، لكني معني الآن بالشخصيات المتميزة بمزاجها الشعري، بأجوائها الخاصة وبنوع ومستوى الهم أو الموضوع. أما الموضوعات العامة والاجواء العامة والأساليب المتشابهة ولا نضج وضعف بناء العبارة، كما عموم القصيدة، وعدم الانتباه الى الاسهاب وعدم تصفية العمل من الاستطرادات ومما لا ضرورة له ...، فهذه سيتلافاها المران وتقادم وتوالي الممارسة والتثقيف.أعترف إن هذا موضوع يتطلب باحثاً أو دراسة علمية، لا كلاماً سريعاً وانطباعات. لكني عادةً أكتب ملاحظات عن ظواهر قصد التحريض على الكتابة المتخصصة والتفصيلية عما أثيره أو أشير اليه. وهذه في رأيي هي مهمة الكتابات الصحفية القصيرة، اشارات للظواهر وليست بحوثا متخصصة. ان فضاءً محدوداً لايسمح بتقويم او بعرض علمي يستند الى مرجعيات. في الفضاء الصحفي المحدد ذلك مستحيل ومادمنا لا نملك صفحات تؤمّن فيها التفاصيل . ثمة نقاد متفرغون ودارسون تلك هي مهمتهم أصلاً وهم قديرون ان لم تسحبهم المجاملات احياناً الى ما لا يرتضونه. لكن للعلاقات الاجتماعية تأثيرها كما لضرورات العيش ... و"اللابأس" تضطرهم احياناً لكتابات لا هم ولا الله يرضى بها. لكن الاوضاع الاجتماعية لا تترك انساناً حراً في عمله.في أزمنة التحولات الثقافية والتجديد وتدفق الكتب المترجمة في نقد ونظرية الادب، ليس غريباً ان نشهد فوضى وتقاطع رؤى واختلاف مزايا التيارات الفنية . في هذا غنى وتسريع للتقدم. ما يربك ويخيف هو اختلاطها في نص واحد وافتقاد النقاء الاسلوبي والتخبطات الفكرية في العمل الواحد. هنا يصبح ضرورياً تدخل البحث الاكاديمي والدرس الاكاديمي الصارم لوضع أسس علمية ولإضاءة الطريق، مما يشعر الكاتب او الشاعر بوجود انتباه وبوجود متابعة علمية. سيفكر بما يكتبه ويعمل في منظومة العمل الجاد لا الهوايات العابثة والكتابات السائبة. اذا لم تمتلك الثقافة الحديثة، الادبية والفنية قواعد علمية ومبادئ رصينة يحترمها الدرس الادبي، ستبقى الفوضى هي السائدة. وهذا ضمن ما يعنيه لا ادب محترم ولا ثقافة وطنية محترمة تسهم كأي ثقافة ناضجة في الثقافة الانسانية. أود الإشارة أن أساتذة الادب الذين نستشهد بهم اليوم هم أساتذة اكاديميون كبار. وإن كل النظريات خرجت من الاكاديميات، فلنحترم الحقائق.. وليس من المقاهي. الآن مطلوب ثقافة تستند الى مرجعيات علمية.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على