الأغلبيّة السياسيّة وفرض الأمر الواقع

حوالي ٦ سنوات فى المدى

 د. أثير يوسف حداد
رأيتُ أن أبدأ مقالتي هذه بنكتة مصرية قديمة لها مدلولاتها. فمن المعروف أن أنور السادات كان يكره بابا شنودة، لأنه، أي البابا، كان ضدّ اتفاقية كامب ديفيد، وقرر أن ينحّيه عن منصبه، ولكن قبل ذلك قرّر أن يستدعيه. وحين وصل بابا شنودة الى القصر، جرى الحوار التالي: أنور السادات: بابا شنودة، أنا قررت الغاء الطائفية في مصر والدين من البطاقة الشخصية، لانضع مسيحياً ولا مسلماً، فالكل مصري.بابا شنودة: عظيم سيادة الرئيس، فالدين للناس علاقة الإنسان بربه.السادات: عظيم وبهذا يتساوى المصريون مع بعض. وبهذه المناسبة قررت تعيين حسين فهمي مسؤول الكنيسة القبطية بمصر.بابا شنودة: ولكن سيادة الرئيس حسين فهمي دا مسلم.السادات: مرة تانية حا تؤلي مسلم وله مسيحي؟ ما قلنا كلنا مصريين.وهنا شر البلية ما يضحك. فالديموقراطية العراقية. التي في الصف الأول حضانة، قسمت المناصب الرئاسية العراقية الى رئيس كردي رئيس وزراء شيعي، ورئيس برلمان سُنّي، ووزارة دولة"للأقلية"المسيحية وربما نائب رئيس للتركمان. ورغم أنني لست ضد تولّي أيّ منصب للتركمان، ولكن ألم يكن من الوفاء للصابئة، الأقدم في العراق، أن يتم اعطاؤهم منصباً شاكرين لهم الاستضافة في أرضهم. أم أن إعطاء منصب للتركمان هو إرضاء لدولة جارة؟، ولا يهتز الضمير لصالح اصحاب الأرض الأصلاء.نعود الى بدء. أقولها بالفم الملّيان، إن ديموقراطية أول حضانة مهدّدة بشكل صارخ، أن تنتقل الى دكتاتورية الأكثرية. وهناك من الإجراءات العملية الكثير من المؤشرات على ذلك، وسنتناولها في مقالات لاحقة.التأريخ العراقي مملوء بالأمثلة للنزاعات. بين السنّة والشيعة، وضريبة الرقبة، وإبادة الآشوريين ومجزرة اليهود. وكان العثمانيون يحرمون على المسيحي حمل سيف، وإن مرَّ المسيحي أمام مسلم عليه أن يتنحى جانباً فاسحاً المجال للمسلم. ولا يمكن، وبالقانون العراقي النافذ، بناء قبّة كنيسة أعلى من أقرب جامع. فلا نخدع أنفسنا بعدم توفر جذور التفرقة في الثقافة العراقية.ما يسقمني حدّ الغثيان، دعوات الحكومة لأن لا يهاجر المسيحيون والايزيدية بعد المذابح ضدّهم، فقد قام (داعش) باغتصاب وقتل آلاف منهم في الموصل وسهل نينوى. هل هي حرب إبادة ضدّهم أم تهجير؟. إن هؤلاء والصابئة..إلخ، لا يمتلكون ميليشيات تحميهم ويسعى البعض الآخر لخلق منطقة عازلة لهم، في منطقة سهل نينوى المختلف على انتمائها للإقليم أم محافظة نينوى، لتكون مستقبلاً خاصرة رخوة يضمّها إليه الأقوى. فهذه الفئات من الشعب العراقي لا تمتلك ثقافة ولا خبرة في التشكيلات الاجتماعية التي تحمي أفرادها من عشيرة وميليشيات، كما أن المسيحية في العراق منقسمة على نفسها في عدد من الكنائس، وفي دولة تقر في دستورها أنها إسلامية وتقتسم فيها المناصب على أساس رقمي افتراضي مذهبي وقومي، وبالتالي فإن عزلهم يهدّد النسيج الاجتماعي العراقي الذي اصبح أكثر هشاشةً من ذي قبل، نتيجة للاستقطابات الطائفية والقومية. هذا النسيج الاجتماعي حدثت فيه مفاهيم جديدة لغير صالح مفهوم المواطنة، فقد هزّت جذوره في الأعماق.إن من واجب الدولة العراقية بجميع مكوناتها حماية"الأقليات"وليس كما يقول المثل الشعبي"تريد أرنب خذ أرنب تريد غزال خذ أرنب". وإن الحروب التي قادتها الحكومات المركزية ضد الشعب الكردي، قادت الى تشكّل مفاهيم بين أبناء الشعب العراقي لغير صالح المواطنة المتساوية، ونشر الفكر القومي العنصري، ثقافة تفوق العربي على الآخر بين شريحة لا بأس بها من أبناء الشعب. وستخلق المناهج التعليمية أجيالاً جديدةً تمتلك مفاهيم مشوّهة لن تساعد في بناء وطن للجميع. لأنها تعتمد على مفهوف، أنا على صح والآخر على خطأ.إن مستوى التطور الاجتماعي والثقافي في العراق لا يسمح بإقامة ديموقراطية مستندة الى ما سمّي بالأغلبية السياسية، والتي هي أغلبية عددية حتماً، لأن الواقع يفصح عن ذلك. وإنما يتوجب علينا الاستفادة من الديموقراطية التوافقية المطبّقة بنجاح في بلجيكا وهولندا وغيرهما، ولكن قبل كل هذا وذاك، ولأن الديموقراطية أسلوب حكم يطبّق في حيز اجتماعي ومجال معين هو الوطن، فنقطة البادية إذن هي بناء الوطن للمواطن. الديموقراطية التوافقية هي تطوير إنساني حديث ضمن نظرية الديموقراطية الكلاسيكية. فقد نشأت تلك النظرية الكلاسيكية في اوروبا ضمن مرحلة الرأسمالية، حيث ان الكل هم بيض والكل مسيحيون والكل بروتستانت، فلا اعتراض إذن على حكومة بيضاء بروتستانتية، ولن يخلق ذلك اية حساسيات. وبمرور السنوات، اكتشفوا أن تطبيق الديموقراطية الكلاسيكية (التي تقوم على الحكم بالتراضي وحكم الأغلبية الانتخابية) لا يكفي في المجتمعات متعددة الأديان والمذاهب والاثنيات، فصاغوا النظرية التوافقية كما في هولندا وبلجيكا وسويسرا، والتي هي عبارة عن تقليل الاحتكاك بين المركز والفروع.في العراق أنا ضد الأغلبية السياسية لأنها ستضاعف من المشكلات بين المركز والفروع، لا بل أدعوا الى زيادة صلاحيات المحافظات في إدارة شؤونها من أجل تخفيف حدّة التوترات بين المركز والفروع أو المحافظات والإقليم أو ما اصطلح عليه بـ اللا مركزية.منذ 2010 أضعف نوري المالكي صلاحيات المحافظات بشكل كبير، مما ضاعف من الاحساس بالغبن من قبل تلك المحافظات، وفي برنامجه الانتخابي الحالي، يدعو الى الأغلبية السياسية والتي تعني عملياً، دكتاتورية الأغلبية العددية.

شارك الخبر على