غواية القراءة الحياة.. طريق يمر من هاوية نيتشه الى مختبر برجسون

حوالي ٦ سنوات فى المدى

|   15    |
 علي حسين
"اذا كان الكتاب الذي نقرأه لايوقظنا بضربة على الرأس،فلماذا نقرأه إذن، فالكتب التي تجعلنا سعداء هي نوع من الخديعة "فرانز كافكاالكثير من الكتب يطويها النسيان، بعد فترة طويلة أو قصيرة، وقليل جداً من الكتب ما يظل عالقاً في الأذهان رغم مرور الزمن وتغير الأحوال، وتجدها تطبع ثم يعاد طبعها، وما أن تدخل إحدى المكتبات أو تتجول في شارع المتنبي حتى تلمحها أمامك، لأن أصحاب المكتبات والبسطيات معاً واثقون من أن هناك من سيأتي لطلبها. من هذا النوع من الكتب رواية " زوربا" لليوناني نيكوس كازنتزاكيس التي مر على صدور اول طبعة منها ما يقارب ثلاثة أرباع القرن " 72 " عاماً، حيث صدرت طبعتها الاولى باليونانية عام 1946. فيما نشرت ترجمتها لاول مرة بالعربية عام 1959 عن دار العلم للملايين بترجمة جورج طرابيشي، بعدها توالت الترجمات حيث صدرت حتى الآن أكثر من عشر ترجمات مختلفة كان آخرها ترجمتان عن اليونانية مباشرة. يكتب أورهان باموق إن " الكتب الجيدة جميعهاً في حالة تنافس بعضها مع بعض " وكان فلوبير يقول لو كان على رجل أن يقرأ عشرة كتب باهتمام كاف سوف يصبح من الحكماء.من بين كتبي الكثيرة التي تجاوزت الخمسة عشر الف كتاب كتاب هناك خمسة عشر أو عشرون كتاباً أحبها وأعيد قراءتها باستمرار، وأشعر مع صفحاتها بألفة دائمة، وتجدني كلما أعود إليها، أتخيل نفسي ألتقطها للمرة الأولى.كتب كازنتزاكيس روايته زوربا وهو في عمر الثالثة والستين، وكان آنذاك مهووساً بافكار نيتشه وتعاليم بوذا ودروس استاذه برجسون ويضع على مكتبة عبارته الشهيرة:" لابد أن نعيش الحياة متجهين إلى الأمام ". ونجده يكتب على لسان زوربا: " عندما نشعر باليأس، علينا أن نذكر أنفسنا، كيف أن أرواحنا قد تظهر في الموسيقى الساحرة، وفي هدية صغيرة مليئة بالأفكار، وفي التشابكات، وفي الفكاهة، وجمال التحدث عند غروب الشمس.".في مذكراته " تقرير الى غريكو " يخبرنا كازنتزاكي إن فكرة زوربا كانت في البداية أشبه بايقاع جديد استولى على حياته:" حين إلتقيت بزوربا، وكان ما يزال يُلقي بظله على الأرض، وحين عرفت انه لاجسده ولا أغنيته ولا حتى رقصته كانت قادرة على استيعابه، تساءلت بتوقع كبير عن أي نوع من الوحوش البرية سيتفجر حيت تأتي ساعته ويقطع القيود الشفافة المحيطة به "، ولهذا ما إنْ نبتت فكرة الرواية في ذهنه حتى أخذ يكتبها بسرعة، بطريفة محمومة وهو ما جعله يصف الرواية بعد أن انتهى من كتابتها بأنها:" مثل المصيدة، كنت أرتبها بكل الدهاء الذي لدي، لكي أقبض على الصرخة المعجزة التي تظل تتقدم أمامي ". تعلمت من الكتب، أن الاعمال الادبية العظيمة تستلزم حكايات غير عادية حولها. فقد نُسجت سير سحرية حول شكسبير بغية إسباغ مسحة من الغرابة والقوة على أعماله، كما الصقوا ببلزاك صفة الاستثنائي لأن قراءه إعتقدوا إن الكوميديا الانسانية، باجزائها التي تجاوزت الـ 140 كتاباً لايمكن أن تكون من تأليف إنسان عادي.يكتب الشاعر الانكليزي بن جونسون أن شكسبير لم يكن ينتمي الى عصر واحد، بل لكل العصور. وهذا القول يجعنا نتساءل لِمَ تصمد بعض الكتب أمام اختبارات الزمن دون غيرها، في كتابه كتابه الممتع " شكسبير معاصرنا يقول البولوني يان كوت إن اعمال شكسبير:" تتعاطى بتعاطف مع هموم أكثر من نوع من الجماهير، ويُعبر بتعاطف عن وجهات نظر الأثرياء والفقراء، والعجائز والشباب، والإناث والذكور، والصعاليك والاميرات، متيحاً لأنواع كثيرة من الجماهير والقراء متعة التماهي مع شخصياته ".. ولعل اهتمام شكسبير بدواخل الشخصية هو ما يفسر خلوده، فالسياسة تتغير والموقف من المرأة يتبدل، لكن القلب الإنساني لايتغير، وفي مركز كل مسرحية شكسبيرية إنسان، الملك لير هو أب أولاً وملك ثانياً.علاوة على ذلك فهو أب يواجه موقفاً سيُخسِره ابنته الأخيرة التي ستتزوج، وهو حاكم على شفا التقاعد المبكر. وهاملت أمير قتل عمه والده واغتصب عرشه، لكنه طالب جامعي أيضاً، لايستطيع أن يتصالح مع فكرة فقدان أبيه. إن فقدان العرش فكرة يمكن أن تناقش، أما فقدان الأب فليس كذلك.هذه مواقف إنسانية لاتنحصر بالملوك والأمراء فقط، فالإنسان " صنف سرمدي " هكذا يصفه زوربا.بالنسبة إلى كازنتزاكي شكلت عبارة نيتشه الشهيرة:" لن تغلبوهم بقوة السلاح بل بقوة الروح "، نقطة البدء بالتفكير بشخصية زوربا اليوناني، وقد أشار اليها كثيراً في رسائله ويومياته. اقترح نيتشه قانوناً واحداً لهذا الانتصار يلخصه في كتابه الشهير " هكذا تكلم زرادشت ":" الحق إن من يكون خالقاً في مجال الخير والشر، عليه أولاً أن يكون محطماً وهادماً للقيود و القيم المتناقضة "، بدأ زوربا حياته بوعي التناقض بين الفطرة والقيود الاجتماعية، فأنفق حياته في التحرر منها وتحطيمها. لقد تزوج، لكن هموم الأسرة حالت بينه وبين ممارسة هوايته المفضلة، العزف على آلة السانتوري فهاجر. وشعر إن رغبته تقيده، فأشبعها الى حد التخمة:" عندما أرغب في شيء آكل منه حتى التقزز كي أتخلص منه، ولا أفكر به مطلقاً، أو أفكر به باشمئزاز، فالإنسان يتحرر بأن يشبع من كل شيء، لا بأن يزهد فيه ويبتعد عنه. هذه هي الحرية، أن تهوى شيئاً، كأن تجمع قطع الذهب وفجأة تتغلب على هواك وتلقي بكنزك في العراء. أن تتحرر من هوى كي تخضه لهوى آخر.أكثر نبلاً ". ************يبدو لي أن وضع كتاب لي بين يدي شخص ما هو إلا إحدى أندر المزايا التي يمكن للمرء منحها لنفسه ".نيتشه عندما سأل امبرتو إيكو عن تجربته في كتابة روايته " اسم الوردة " أجاب كنت أحاول أن أمزج بطريقة هوجاء بين الأفكار الأكثر غرابة. كنت أقول مازحاً، ما فعله نيتشه في هكذا تكلم زرادشت، أو ما فعله جيمس جويس في يوليسيس، أحاول أن أفعله في رواية فلسفية مشوقة. ولكني اكتشفت بعد ذلك إن علينا أن نترك العظماء فوق عروشهم دون أزعاجهم " يعلمنا فردريك نيتشه المولود عام 1844، أن علينا ان لانقرأ الأدب والفلسفة على إنهما نوع من أنواع الكتابة، وإنما أن نقرأ كلا الأمرين على إنهما شكل من أشكال الحياة.. يوصف كتاب " هكذا تكلم زرادشت " الذي نشر ما بين عام 1883 و 1885، بأنه رحلة روحية في العالم الحديث، ونيتشه نفسه قد دعاه " دعوة صادرة من أعماق نفسي ". فالكتاب يقدم آراء نيتشه الفلسفية في قالب فني، ويمثل الإتجاه الصوفي الذي اتخذه في أواخر حياته.يكتب نيتشه في " هذا هو الإنسان " إن: " الفكرة الرئيسة في كتاب هكذا تكلم زرادشت هي فكرة العود الأبدي، لقد دونت تلك الفكرة في مذكرة سريعة على ورقة مع حاشية تقول: ستة الآف قدم وراء الإنسان والزمن، في يوم من عام 1881، كنت أتمشى عبر الغابات وتوقفت بجانب صخرة ضخمة مرتفعة على شكل هرم، وهناك طرأت لي الفكرة. حيث اكتشفت علامة تحذير على شكل تغير فجائي وعميق طرأ على ذوقي – وخاصة في مجال الموسيقى. وربما يمكن توصيف كتابي ( هكذا تكلم زرادشت ) بالكامل على انه موسيقى – فأنا متأكد من أن ولادة جديدة، نوع من عصر النهضة في داخلي عن فن الانصات كان شرطاً لازماً لهذا الكتاب." منذ صدوره اعتبر كتاب (هكذا تكلم زرادشت) من اكبر الكتب إثارة للجدل، حاول نيتشه أن يقدمه الى المطبعة بجزءين، وقد تأخر صدور الجزء الأول بسبب انشغال المطبعة بطبع نسخ من التراتيل الدينية، وعندما أرسل الجزء الثاني الى الطبع رفض صاحب المطبعة، طباعته بدعوى انه كتاب فاشل، وكان كلام الناشر صحيحاً، فلم يبع من الجزء الاول سوى أربعين نسخة، حيث استقبِل الكتاب ببرود قاتل من قبل المهتمين بالفلسفة، فلم يُرحب به أحد بل حتى زملائه السابقين في الجامعة اعتبروا الكتاب فاشلاً لأنه يريد أن يقتل جميع الأديان والآلهة:"لأنني عشت جميع الأخطار، فسأدفنكم بيدي أنا، لقد ماتت الآلهة القديمة منذ زمن بعيد، ولقد كانت نهايتها حسنة وفرحة". ويذهب نيتشه أبعد من ذلك حين يعلن " إن الضعفاء والعجزة يجب أن يفنوا، هذا أول مبدأ من مبادئ حبنا للإنسانية "، تلك هي القيم التي بشر بها زرادشت نيتشه فليس الوجود إلا "الحياة"، وليست الحياة إلا "الإرادة"، وليست هذه الإرادة إلا "إرادة القوة". بعد ذلك نسمع زرادشت وهو يقول واعظاً:"عيشوا حياة الأخطار وأقيموا مدنكم الى جانب الأقوياء، وابعثوا بسفنكم الى البحار المجهولة، ثم عيشوا حالة حرب ". يؤكد نيتشه إنه ما من أحد قادر على انتاج عمل فني عظيم من دون تجربة، أو تحقيق مكانة دنيوية متميزة، ولهذا نجده معجباً بالفيلسوف الاغريقي ابيقور الذي اعتبره " مسكن الارواح " و " أحد أعظم البشر، مبتكر اسلوب بطولي – رعوي من التفلسف "، لم يكن كتاب هكذا تكلم زرادشت إلا حلماً من الأحلام التي تسجلها العقول العظيمة وكما اعترف نيتشه:" إنها روح طغت على كل ما يحدها ".************أريد تفسير تصور للحياة خاص وفردي، كذلك نظرية عالمية خاصة ونظرية في قدر الإنسان، وبعدها، بناء على هاتين النظريتين، وبترتيب وعزم وبرنامج محكم، أكتب ما سأكتبه".كازنتزاكيس ولد نيكوس كازنتزاكيس في الثامن من شباط عام 1883 بجزيرة كريت اليونانية وعاش كما عاش أبطال رواياته، لم يترك أرضاً إلا زارها ولم يصادف فرصة إلا واغتنمها، تلقى تعليمه الاول في الجزيرة بعد ذلك حصل على شهادة عليا في القانون من جامعة أثينا، سافر الى باريس لدراسة الفلسفة وتتلمذ على يد الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون الذي ترك تأثيراً كبيراً على حياته، قضى عامين في دير للرهبان حيث عاش تجربة روحية قاسية، في عام 1945 عين وزيرا للتعليم في اليونان لكنه سرعان ما اعتزل العمل الوظيفي ليتفرغ للكتابة، يستقر بعدها في فرنسا، وكانت كتبه قد ترجمت الى معظم لغات العالم، داهمه المرض وهو في الرابعة والسبعين من عمره حيث توفي في إحدى مستشفيات المانيا، وكان قد أصدر في أواخر حياته كتابان عن أهم أساتذته، برجسون ونيتشه.تدور أحداث رواية زوربا او كما سميت بالترجمة الحديثة عن اليونانية " حياة الكسيس زوربا ومغامراته " حول شخصيتين من عالمين مختلفين. الأول كاتب نصفه يوناني ونصفه الآخر بريطاني اسمه باسيل، يرث منجماً للفحم مع الأراضي المحيطة به في جزيرة كريت. والثاني عامل بسيط يبحث عن عمل. تبدأ الرواية عندما يقرر هذا الكاتب – الراوي - أن يغير نمط حياته، ويسافر الى كريت ليتعرّف على أملاكه الجديدة ويفتتح المنجم القديم. فنجده في الصفحة الأولى وهو يجلس في مقهى مرفأ بيرايوس، ينتظر السفينة المبحرة الى كريت. ويشعر أن هناك من يراقبه، فيتلفت حوله ويرى رجلاً عند باب المقهى يحدق به. يسير الرجل إليه ويقدم نفسه باسم " اليكسس زوربا". ويقول إنه خبير في أعمال المناجم ويريد عملاً. يعجب باسيل بشخصية زوربا ويأخذه معه الى كريتيبدأ زوربا في العمل ويجد ان المنجم يحتاج الى تدعيم. يفكر باستخدام أشجار الغابة القريبة التي يملكها دير الرهبان. فيتودد الى الرهبان ويسهر معهم وهم يحتسون معاً، الخمرة، حتى يثملون. وبعد عدة أيام يعود ويرقص رقصة تبهر باسيل الذي يدرك من رقصه، أنه نجح مع الرهبان. يتعرّف باسيل على الأرملة الشابة الجميلة التي يضايقها القرويون لأنها تمتنع عن الزواج، مرة ثانية. ورفضت طلب شاب مغرم بها مرات كثيرة. ويشعر باسيل بالميل إليها ويهديها مظلة فتقبلها، لكنه يتردد ولا يقوم بالخطوة الثانية.يرسل باسيل زوربا الى بلدة تشانيا ليشتري المعدات اللازمة لافتتاح المنجم. وهناك يُمتع زوربا نفسه بالسهر مع إحدى الراقصات في ملهى ليلي. فينتقم منه باسيل ويخبر مدام هورتينس أن زوربا سيتزوجها فور عودته. فجأة تُرجع ويدو المظلة الى باسيل مع ميميكو، ويعرف باسيل إنها النهاية. يذهب الى منزلها ويراضيها ويقضي الليلة معها. يعرف أحد القرويين وينتشر الخبر. فينتحر الشاب المتيم بـها غسلاً للعار.تسير القرية في جنازة ذلك الشاب، وتأتي الأرملة الى الكنيسة معزية. فيمنعها القرويون من الدخول ويحاصرونها في باحة الكنيسة ويرجمونها بالحجارة. يرسل باسيل ميميكو وراء زوربا. وينقذها زوربا ويتغلب على الشاب الذي حاول طعنها بالسكين ثم يطلب منها أن تسير خلفه. وفي اللحظة التي يدير فيها ظهره، يستل والد الشاب المنتحر سكينه ويقطع عنق الأرملة. ويتفرق القرويون غير مكترثين، ويبقى باسيل وزوربا وميميكو مع الأرملة الميتة. يؤكد كازنتزاكيس أن " زوربا " شخص من لحم ودم، رجل عجوز يعيش في إحدى قرى كريت، كان يحبه كثيراً، بل إنه واحد من الأشخاص الذين تركوا في نفسه أثراً كبيراً وفي مقدمة الرواية يكتب: " لو إنني أردت أن أذكر الاشخاص الذين تركوا أعمق الأثر في نفسي، فلعلني أذكر بصفة خاصة ثلاثة أو أربعة: هوميروس، برجسون، نيتشه وزوربا"، وبعد ذلك يقول لو كان بمقدوره أن يختار في هذه الحياة مرشداً هادياً روحياً لأختار بلا تردد زوربا، ويرجع السبب في تأثير زوربا على كازنتزاكيس هو لإمتلاكه النظرة الفطرية للأشياء، والبراءة الخلاقة التي تتجدد في نفسه كل صباح، والتي تجعله دائماً في تطلع مبهور الى جميع الموجدودات، كما إنه يملك في داخله قوة قادرة على تجاوز كل العوائق الاخلاقية والدينية..إن زوربا يمثل التفاهم بين الطبيعة والإنسان مثله مثل زرادشت في كتاب نيتشه، لقد كان العالم بالنسبة لزوربا رؤيا ثقيلة وكثيفة، وهو يعيش في هذه الحياة في صداقة مع الطبيعة دون تدخل العقل الذي يشوه الاشياء، وقد استطاع بفطرته هذه أن يحب ويكره ويقاتل ويعمل ويحل جميع المشكلات التي تعترض طريقه دون الرجوع الى الكتب وأقوال الفلاسفة، أما الكاتب فهو نتاج الثقافة الاوروبية الحديثة، اختار البوذية كطريق للخلاص الفردي، وكان يؤمن أن كل انسان هو جزء من الطبيعة التي يحصل من خلالها على هدوء الروح. وعندما يلتقي بزوربا يكون في حالة زهد بالطعام والشراب والجنس، لكنه يعاني من قلق الروح، الأمر الذي يجعله مشلولاً، شارداً، أشبه بالمخدَر، ولهذا يصر زوربا أن لايتركه في سكون ويبدأ يعلمه كيف يستخدم جسده وحواسه فنجده في النهاية يقول:" سأدرب حواسي الخمسة، جسدي كله كي يتمتع ويفهم سأملأ روحي بالجسد وأملأ جسدي بالروح. سأوافق أخيراً في نفسي ما بين هذين العدوين الأبديين ".كانت هذه هي الخلاصة التي خرج بها الكاتب بعد أن عاش الحياة الحقيقية مع العجوز زوربا ".كان طموح هنري برجسون في بداية حياته أن يصبح شاعراً، وكان يؤمن في شبابه أنه ليس هناك هدف روحي للحياة،وكتب ذات مرة إن: " نظرة واحدة في المجهر تبدد الى الأبد زهو المؤمنين حرارة بالخلاص البشري ". لكن حدث ذات مرة أن عنفه أحد اساتذته لإهماله ترتيب كتبه ، فسأله الاستاذ: " كيف تستطيع روحك كأمين مكتبة أن تتحمل مثل هذا الإهمال في النظام والترتيب، فما كان من رفاقه في الصف إلا أن اطلقوا صيحة واحدة قائلين: إن برجسون لا روح له ". بعد هذا الموقف تحول برجسون لدراسة الفلسفة المثالية، حيث بدأ يفقد الثقة بانابيب اختبار المعامل ومعادلات علماء الرياضيات والتعاريف الدقيقة التي يضعها الفلاسفة. وأخذ يسأل نفسه كيف يمكن للأشياء المادية في وقت ما أن تفسر الشيء الجوهري الوحيد الذي تحدى التفسير ألا وهو معنى الوجود؟. لم يكن تحوّل برجسون من مفكر مادي الى فيلسوف مثالي ليتم في لحظة ففي بادئ الأمر لم يستطع أن يفسر، حتى لنفسه الى أين كانت تقوده افكاره، ولكنه بدأ يشعر شيئاً فشيئاً أن نوعاً من الادراك الشاعري الغريزي قد سيطر على تفكيره، بعدها ازداد اقتناعه أكثر فاكثر بان العقل البشري ليس آلة بأية حال، ودلل على ذلك بتساؤله إذا كان من الممكن لخليط آلي من القوى الطبيعية ان ينتج مسرحيات شكسبير؟ وهل يمكن بأي ترتيب رياضي لحروف الهجاء أن نحصل على عظة الجبل التي ألقاها المسيح؟ وهل يمكن للتركيب الكيمياوي المسمى هنري برجسون أن يفسر بلاغة محاضراته واستجابة جمهوره من المستمعين؟ يمدنا برجسون في كتابه " منبعا الاخلاق والدين " بفلسفته الخاصة التي يرجعها الى عنصرين مهمين هما " الاخلاق والدين " ففي الإنسان يوجد دافع غريزي نحو التعاون الاجتماعي وهو حسب رأيه يأتي من الله، ومع ذلك عندما حصل الإنسان على العقل أو الذكاء في البداية كان هناك خطر شديد وهو أن تجعله قوته العقلية أنانياً الى حد كبير وأن يستخدم عقله المكتسب حديثاً لأغراض فردية تضر المجتمع ، وتناقض أغراض الدفعة الحية، ولمنع هذه الكارثة قامت الطبيعة بدفع الأفراد الى الشعور بانهم يواجهون إرادة المجتمع، تلك الارادة التي يُعبر عنها بالعادات والتقاليد والمحرمات التي يشعرون إنهم مجبرون على الخضوع لها، وقد نشأ فيما بعد خطر مضاد للتطور البشري إذ أصبح ثقل العادات والمحرمات مسؤولاً عن تقاعس الجنس البشري عن طريق قصورها وقسوتها، وهددت الحرية بالضياع وأصبح التقدم مستحيلاً، ويعتقد برجسون إن الدين لو وظّف بشكله الصحيح لاستطاع أن يعمل كثيراً لتعزيز تقدم البشرية وهو يرى إننا بحاجة إلى مجتمع أكثر روحانية وقيم اجتماعية عادلة وديمقراطية، مجتمع يخلو من الحروب والمنازعات مجتمع تستطيع البشرية أن تعيش فيه بحب وانسانية، وإن الانسان يستطيع أن يبلغ حياة أفضل في هذا العالم لو انه بذل المزيد من الجهد الانساني الضروري.في يومياته " تقرير الى غريكو " يلخص كازنتزاكيس فلسفته الإنسانية وهي:" ثمة واجبات ثلاثة على الإنسان أن يؤديها أولها واجبه نحو عقله الذي يفرض النظام على الفوضى ويشكّل القانون ويقيم الجسور فوق عالم اللامفهوم، ويضع الحدود المعقولة التي لايجرؤ أحد على أن يتخطاها، ثانيها واجبه نحو قلبه الذي لا يعترف بحدود، والذي يتوق الى النفاذ وراء الظواهر ليمتزج بما هو أبعد من العقل وبما هو وراء المحسوس، أما واجبه الثالث فهو أن يحرر نفسه من العقل والقلب وما يقدمه كلاهما من أمل في اخضاع الظواهر الطبيعية واكتشاف جوهر للأشياء، ثم من واجبه أيضاً أن يحتضن هاوية الزوال بلا أمل، وألا يعترف بشيء لا بالحياة ولا بالموت، وأن يتلقى هذه الحميمية بسمو وشجاعة، عندئذ يستطيع الإنسان أن يقيم لحياته بناء راسخاً فوق الهوة السحيقة التي لامفر منها وقد سرى في بدنه الفرح المشوب بالحزن ".

شارك الخبر على