نخبة غائبة أم سلطة مستبدة؟!.. علقوا الجرس في رقبة القط

أكثر من ٧ سنوات فى التحرير

تحت عنوان (لماذا انسحبت النخبة المصرية من الشارع السياسى) كتب الأستاذ فاروق جويدة مقالا طويلا بجريدة "الأهرام" فى عدد الجمعة الماضية، ورغم أنه بدأ مقاله بالتساؤل حول ما إذا كان هذا الانسحاب إراديا أم اختفاء قسريا، وهو ما يعنى أن هناك جانبا من المسئولية على السلطة السياسية والأجواء التى تحيط بالوضع السياسى فى مصر، فإننا لم نقرأ كلمة واحدة حول ذلك الجانب، واكتفى الكاتب الكبير بالحديث عن غياب دور الأحزاب السياسية، والنقابات المهنية، والشباب، ومحذرًا من أن هذا الفراغ يترك المساحة لعودة فلول وبقايا النظام القديم من ناحية ويعيد جماعة الإخوان لتبدو وكأنها تمثل المعارضة الوحيدة فى الشارع.

ولأنه لا يمكن إنكار دور هذه القوى والتنظيمات والقطاعات جميعا فى الوضع الذى وصلت إليه والقصور الذى تعانى منه والذى تبقى مسئوليتها عنه مؤكدة، فإننا لن نجادل كثيرا فى الحقيقة فى هذه النقطة، لكن الاقتصار عليها والوقوف عندها يبدو فى رأينا نوعا من التشويش والتشويه لحقيقة الأمور فى مصر الآن، التى لم تعد المشكلة فيها فى غياب النخبة عن الشارع السياسى، بل مصادرة هذا الشارع السياسى بالأساس، والأخطر هنا أن ذلك لم يتم فقط بفرض القيود على حرية الحركة والتنظيم والتعبير والمعارضة، بل خلقت أجواء مجتمعية طاردة للسياسة بالأساس، وشوهت دور ومواقف الأحزاب والنقابات، فضلا عن الشباب أمام قطاعات واسعة من المصريين، وهو ما لم يكن أمرا اعتباطيا، بل كان موقفا منهجيا للسلطة القائمة، التى يرى الأستاذ فاروق جويدة أن رئيسها عبد الفتاح السيسى لن يقف ضد أحزاب جادة وملتزمة وواعية بقضايا الوطن وهمومه ولن يرفض مشاركة النقابات المهنية فى تحسين الأحوال وتقديم الخدمات ولن يرفض أدوار المجتمع المدنى فى مواجهة الفساد! 
والحقيقة أن كل ممارسات الفترة السابقة تؤكد العكس تماما، فهذه السلطة برئاسة السيسى، فضلا عن المناخ والأجواء التى أسهمت فى خلقها وترسيخها والاستفادة منها، هى نفسها التى لم تلق بالًا للأحزاب ولأى مقترحات أو رؤى منها، اللهم إلا قبل انتخابات مجلس النواب بهدف تشكيلها لقائمة موحدة، وهى التى شنت ولا تزال عبر أدواتها الإعلامية وأجهزتها الأمنية حملات التشويه والتشكيك فى كل الرموز السياسية وقادة الأحزاب، والتى تتعامل مع المعارضة باعتبارها شقا للصف الوطنى وتعتبرها فى الأرجح جزءًا من أهل الشر وتوزع الاتهامات عليها ليلا ونهارا.. ثم إن هذه السلطة هى التى خاضت معارك شرسة مع نقابات مثل الأطباء والصحفيين، وبادرت لأول مرة لاقتحام مقر نقابة، وتحاكم الآن نقيب الصحفيين واثنين من وكيلى النقابة، وهى التى تتخذ موقفا -ولو غير معلن- من كل نقيب أو مجلس نقابة يبدى استقلالا عن السلطة أو خلافا معها أو عدم طاعة لأوامرها وتعليماتها، وعلى سبيل المثال يضرب جويدة مثالا فى مقاله بنقابة الصحفيين وبأن دورها الغائب قد تحول إلى كونها ضيفا مقيما فى أقسام الشرطة والمحاكم، وأنها تعجز عن إنجاز قانون ينظم أحوال الصحافة المصرية، وكأن تحول قيادات النقابة والصحفيين إلى المحاكمات والأقسام هو مسئولية النقابة لا السلطة التى اضطرت الصحفيين لرفع شعار (الصحافة مش جريمة)، وكأن مشروع القانون الذى أنجزته نقابة الصحفيين مع غيرها من الجهات الصحفية والإعلامية منذ شهور طويلة لا يزال معطلا بسبب تقصير النقابة وليس بسبب تلكؤ السلطة وتحايلها.

أما المجتمع المدنى فحدّث ولا حرج، ونحن لسنا فقط أمام رفض لأدوار فى مكافحة الفساد، سواء بمعناه المباشر مثلما جرى مثلا مع رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات هشام جنينة الذى تم إخراجه من منصبه وتحويله إلى المحاكمة بسبب تقرير قام بإعداده عن الفساد وأعلن عن بعض تفاصيله، ونحن هنا لا نتحدث عن مجرد جمعية أو منظمة أو مركز، بل عن أكبر جهاز رقابى، وهو بالمعايير التقليدية جزء من الدولة لا من المجتمع المدنى حتى بمعناه المباشر.. أما المنظمات والجمعيات والمراكز، فملاحقتها المستمرة لا تتوقف، وتصل إلى محطة الاتهامات والمحاكمات والمنع من السفر ومنع التصرف فى الأموال، وهو فى الحقيقة ليس موجها ضد قطاع بعينه من المنظمات كما تدعى السلطة، وليس مبنيا إلا على مواقفهم من سياسات السلطة بالأساس، بل هو أمر موجه لكل من لا يسير على هوى السلطة من هذه المنظمات والجمعيات التى ترحب بها السلطة وتشيد بأدوارها فقط عندما تشارك فى دعم المشروعات التى تقيمها الحكومة، أما ما دون ذلك، وأما الأدوار الطبيعية لجزء وقطاع من هذه الجمعيات والمنظمات فى مواجهة الفساد أو انتهاكات حقوق الإنسان أو الدفاع عن حقوق المصريين الاقتصادية والاجتماعية، فهو يحولها إلى خصم وعدو ينبغى التضييق عليه ومصادرة أى هامش متاح له.

أما الشباب المصاب بإحباط ويأس شديدين بحسب المقال، فهو فى الحقيقة لم يصل إلى هذا الحال فقط لغياب أدوار الأحزاب والنقابات، وإن كان ذلك جانبا مهما فى أزمته دون شك، لكنه كذلك بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة، التى لا يمكن أن تكون المعارضة مسئولة عنها بالقطع، ولعل نماذج تعامل السلطة مع الشباب، سواء على المستوى السياسى، أو الاقتصادى، أو الاجتماعى، أو فى مختلف المجالات، لا تحتاج لشرح أو تفصيل، وكل ذلك يجرى فى ظل ما يسمى بعام الشباب، الذى لم يجد فيه هذا الشباب سوى مزيد من الإحباط والبطالة والفقر وكبت الحريات والزج فى السجون ولم يجد بعضهم مهربًا إلا بطريق الهجرة غير الشرعية.

فى هذا السياق، لا يمكن تصور أن المسئولية والعبء يقعان فقط على الأحزاب والنقابات والمجتمع المدنى والشباب، حتى وإن كنا نتفق على تحملهم جانبا مهما من المسئولية، ونؤمن بضرورة تجديد دماء النخبة المصرية، سواء من حيث أدوارها أو أولوياتها أو قطاعاتها ورموزها، إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون جادا وموضوعيا سوى بردّ الأمور إلى أصلها وتحميل السلطة لمسئوليتها الأساسية، عن مصادرة السياسة وقتلها فى هذا البلد، ظنًّا منها أن السياسة والسياسيين هما عبء على الدولة والمجتمع فى هذه المرحلة، وإيمانا فى ظل طريقة تفكيرها بأن أهل الحكم الحاليين هم الأقدر والأدرى والأعلم والأكفأ، بل والأكثر وطنية، رغم أن كل ما يجرى فى هذا البلد يثبت العكس تماما، ثم إن الحقيقة أن ما يخشى منه الأستاذ جويدة فى مقاله، من عودة فلول النظام الأسبق وتحول الإخوان إلى قوى المعارضة الوحيدة، هو من دواعى سرور السلطة الحالية، بل ومن مساعيها ومصلحتها من وجهة نظرها، لأننا سنصبح كما هو الوضع حاليا أمام خيارات كلها مرة، فإما استمرار الوضع الراهن وتحمله، أو القبول بعودة رموز نظام مبارك الذين لا يختلفون فى الحقيقة فى جوهر السياسات عما هو قائم، وإما أن تكون فى صف المعارضة الوحيدة وهى الإخوان.. والحقيقة أن مصر أكبر وأكثر تنوعًا من كل هؤلاء مجتمعين، وهى قادرة على إعادة فرز نخب جديدة وتجديد دمائها وشرايينها، وتنظيم صفوفها محترمةً التنوع والاختلاف فيما بينها، لكن دون أن نجلد الضحية ونترك الجلاد، ودون أن نتغاضى عن ضرورة وضع الجرس فى عنق القط. 

شارك الخبر على