المنابع الاجتماعية والثقافية للعنف ٤.. توترات الدرويش والفقيه والأفندى

حوالي ٦ سنوات فى التحرير

فى المبحث الأول من كتابه "فى الأحوال والأهوال- المنابع الاجتماعية والثقافية للعنف أحوال العنف"؛ المعنون: "تأمل الذات، أو توترات البنية الاجتماعية- الثقافية العربية"، يتناول عالم الاجتماع العراقى فالح عبد الجبار انتقالات المجتمع العربي من عالم "الملل والنحل"، من امبراطوريات الماضي المؤسسة على الهوية الدينية العابرة للقبائل والأقوام إلى الدولة المركزية الحديثة، وانتقالات الثقافة العربية من النظم الثقافية الميثولوجية - الشفاهية والمقدسة - الأبجدية، إلى النظام المعرفي الحديث القائم على المعرفة الوضعية والكلمة المطبوعة.

هذه الانتقالات والتحولات والتوترات التى ظلت تتفاعل بأثر التماس- العنيف فى أغلب أوجهه- بين الغرب وبين الشرق (العالم العربى- الإسلامى) لفترة يتفاوت مداها الزمنى وتأثيرها بين بقعة وأخرى، لكنها تغطى ما يتجاوز القرن، تظهر لحظات البداية الأهم بين نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، قبل ذلك كان العالم يبدو منقساما حضاريا وثقافيا، وينبهنا، عبد الجبار، إلى أن "الانقسام الحضارى- الثقافى بين عالم الغرب والعالم الشرقى (العربى- الإسلامى) الذى كان حتى تلك الأونة تضادا خارجيا، تحول إلى انقسام داخلى اجتماعى- ثقافى. وأكتسب هذا الانقسام شكلا صلبا من مؤسسات وقوى اجتماعية جديدة وقيم وأنماط عيش ولباس: الطربوش بدل العمامة والبزة الغربية بدل القفطان، والأحياء المفتوحة بدل الحى المغلق، والمواطن المجرد بدل نظام الملل والمدرسة بدل الجامع".

ووجد هذا التحول فى خدمته: خطوط التلغراف، والسفن البخارية، وسكك الحديد، والكلمة المطبوعة، التى تهيئ لنشوء أشكال جديدة، واسعة الانتشار من إنتاج الثقافة ونشرها/ الصحافة وأنماط من الوعى الأدبى: الرواية.

بعض من تلك الأمثلة التى يذكرها عبد الجبار؛ عابرا من الرؤية الكلية إلى الأمثلة العيانية، تبدو لنا الآن وكأنها كانت هكذا منذ الأزل، المباح اليوم والحل كان ممنوعا ومحرما فى الأمس القريب، هكذا عبر الأمثلة العابرة نفيق دون أن يكون هذا هو القصد على واقع أننا نلبس ونأكل ونشرب؛ ونعتقد ونفكر ربما، تبعا لتفاعل مكونات اجتماعية وثقافية، هى فى طبيعتها متغيرة، وفى صيرورة مستمرة، فمثلا- وليس هنا مجال التقييم ما إذا كان ذلك مفيدا حقا أم لا- كم من الذين يستمعون يوميا بصورة منتظم إلى إذاعة القرآن الكريم بإمكانه ان يتصور أنه كانت هناك معركة فقهية عنيفة متعلقة بمدى مشروعية بث القرآن الكريم متلوا عبر الإذاعة، وقف مشايخ- كثر فى الواقع- فى بلدان عدة- كان أخرها فى النصف الثانى من ستينيات القرن العشرين- يجأر صارخا: لا يجوز، حرام، كفر، كلام الله يخرج من هذا الحديد، هذه إحدى علامات الساعة، آذان الصلاة يخرج من حديدة أعوذ بالله من غضب الله.

هكذا يخبرنا عبد الجبار: "لم تمر هذه التحولات بدون احتدامات عنيفة: التمرد على استبدال العمامة بالطربوش (المغربى)، أو حتى نزع الطربوش. أو الاحتجاج على رواج القهوة. أو الاعتراض على دخول السروال الغربى (تمرد الانكشارية فى اسطنبول على اللباس الجديد بالتظافر مع الحرفيين التقليديين: خياطى اللباس القديم)، أو الاحتجاج على دخول الإذاعة وبالذات بث تلاوات من القرآن الكريم على موجات الأثير. لعل خير ما يصور الانشطار الثقافى هو المصير الذى حاق بمؤسسة العهد الزراعى المتشظى: الجامع- المدرسة أى المدرسة الدينية."

ويلفت عبد الجبار الانتباه إلى أن: "حركة التماس مع الغرب لم تكن فى البدء لقاء "ثقافيا" بالمعنى الضيق للكلمة، بل تصادما تجاريا- عسكريا، شمل المعمورة كلها، من حرب الأفيون مع الصين (1832) إلى فتح اليابان عنوة أمام التجارة فى عصر الميجى (1851) إلى دخول نابليون فالإنجليز مصر، وتمدد فرنسا فى أفريقيا.أطلقت حركة التصادم استجابات مركبة، حضارية الطابع، من حركة الميجى اليابانية، إلى التنظيمات العثمانية، وإصلاحات إيران القاجارية، وإصلاحات محمد على. فى هذه المجابهة الحضارية- العسكرية ارتكزت المقاومة على ما أسماه إدوارد سعيد استعادة ثقافة الإمبراطورى، المتغلغل، المتوسع، وإعادة إنتاجها، وأن البيروقراطى الباشا والمصلح الدينى هما عماد الحركة الجديدة: الأول تحرك باتجاه إعادة تنظيم الدولة من حيث هى مؤسسات: الجهاز البيروقراطى الممركز الجديد عوض الأشكال اللامركزية من الولاء والتبعية (دفع الجزية والدعاء للسلطان)، والجيوش الدائمة بدل الجماعات المسلحة، المشتتة (السباهى، الإنكشارية)."

أما المصلح الدينى فكان معنيا بالثقافة: تحديد الذات الحضارية، الآنا والآخر، فى زمن المجابهة، بصورة مسعى للعودة إلى دين نقى مخلصا من شوائب الطرق الصوفية، ومن عقائد الجبر، العودة إلى دين العقل، المتوائم مع متطلبات التطور (رسالة التوحيد- محمد عبده).

هكذا، إذن: "دخلت الثقافة العربية التماس مع الغرب، وهى تحمل منظومتين معرفيتين: الميثولوجية- الشفاهية، والمتافيزيقية- الأبجدية، وانتقلت أثر هذا التماس، إلى توليد شكل ثالث، رئيسى انطلق مؤسسيا من الدولة، وفكريا من الإصلاح الدينى.

ويقدم عبد الجبار هذا الثلاثى: هناك الدرويش (أو شيخ الطريقة، وهناك رجل اليدن (الفقيه)، وهناك الأفندى: ينفصل هؤلاء الثلاثة عن بعضهم فى مجالات اجتماعية متمايزة، وفى ظل مؤسسات متباينة.

ويفصل: "الدرويش يحتل دائرة الطقس- المرقد- الموكب، والشيخ فى الفقه والمسجد، والأفندى فى الكتاب- الجامعة- المؤسسة. حقل الأول هو الحى الشعبى أو القرية، وحقل الثانى طلاب العلوم الدينية أو جمهور المصلين، وحقل الثالث هو القارئ المتعلم على امتداد رقعة الدولة القومية بل حتى خارجها، يعيش الثلاثة متجاورين. هذا التعايش الظاهرى يخفى فى ثناياه تعارضا فكريا- اجتماعيا، يشتد أواره بفعل شروط الانتقال إلى هذا الوضع، شورط يتداخل فيها السياسى بالاقتصادى والاجتماعى بالثقافى."

ويجمل ويلخص: "بتعبير آخر أن الشرط العام الخارجى، لهذا التحول الثقافة يرتبط بالانتقال من فكرة وواقع الدولة الدينية (العثمانية)، القائمة على نظام الملل، إلى فكرة الدولة الحديثة القائمة على فكرة المواطن. هذا الانسلاخ أيا كان تقييمنا لمغزاه وعوامله، شكل تحولا مؤلما للمثقفين التقليديين. ولعل من بين مظاهر الصراع الناجم عن هذا الانسلاخ المعركة التى دارت أثر إلغاء أتاتورك للخلافة أو الاعتراض على فكرة المساواة مع غير المسلمين (أهل الذمة) التى تبرز بقوة فى الايديولوجيا الإسلامية المعاصرة."

شارك الخبر على