المطران جورج خضر وجه من نور (بقلم نائب رئيس مجلس النواب السابق إيلي الفرزلي)
over 7 years in تيار
المطران جورج خضر، وجه من نور حضننا بحبّ وكرم. أدركته في علاقة راقية وطيبة، كان فيها الأب والمرشد والصديق، وكنت بدوري ألتقط الأوقات لكي ألتحف بفكره وأتوشّح برؤيته، وأحيا في بركات الحبّ الكثيف، وقد شدني بها إلى الناصريّ الحبيب.
أشهد من خلال عشرتي الطويلة معه، كيف أنّه كان يتطلّع إلى انسياب نهضة ناصعة وصافية داخل الكنيسة تقودها وتقود المؤمنين فيها إلى ملء قامة المسيح. وأشهد أنّه لم يكن محصورًا بجيل واحد بل امتدّ إلى كلّ الأجيال، يخاطبها بلغة الإنجيل وبأدب عالي المستوى يشدّ السامعين إليه، ويعلمهم بأنّ هذا الأدب لا وجود له إلاّ بالكلمة، ولا حضور له من دون الكلمة، لطالما ذكرنا بأنّه لا يكتب بل يستكتب.
طوال حياته الزاخرة بالعطاء والنضال سطع ملهمًا وموجّهًا. علّم طوال مسيرته، كيف يجب على المسيحيّ المنغرس بإيمانه أن يحترم كتابه العزيز ويولد منه، ويحترم بدوره الآخرين، وبخاصّة المسلمين، ويفرح لإيمانهم بالله عزّ وجلّ، ذلك أنّ اللقاء على دروب الإيمان بالله الواحد عزّ وجلّ بركة للجميع، وبهذا السير تتأمن عرى الوحدة الوطنيّة في لبنان والمشرق، ونبني بها دولة المواطنة.
حرص سيادته على رعاية الفقراء فكان النصير لآلامهم والمعزّز لآمالهم، وفي مسيرتي السياسيّة والفكريّة استقيت من ينابيعه ما أعانني وسمح لي بالتعبير الصريح ضمن الكنيسة الأرثوذكسيّة، بأن الكنيسة كنيسة الفقراء وليست كنيسة أثرياء يهيمنون عليها ويهيمون بالسلطة من خلالها ولو على حساب الأرثوذكس أو على حساب علاقة الكنيسة بالوطن. ومنه أيضًا تعلمت ما كان يقوله القديس يوحنّا الرحيم بطريرك الإسكندرية، بأنّ الفقراء سادتنا في الكنيسة. رفض المطران جورج تحوّل الكنيسة إلى حالة مؤسساتية فهي كنيسة الرسالة، وإذا كان لا بدّ من مؤسسات تربويّة واستشفائيّة فيفترض أن تكون جزءًا من الرسالة الإنجيليّة، بحيث يترجم الإنجيل ببهائه في طرائق التعامل مع المؤمنين ضمن مقولة الحبّ المجانيّ، وليس بطرائق الازدراء والعزل أو الرفض. الكنيسة مع جورج خضر ومع التراث الأرثوذكسيّ العريق شعب الله المؤمن المتآزر بشراكة رسولية فعالة توحدّه وتجعله راسخًا في بلدان المشرق العربيّ، فينبض المسيح فيه. ألم يقل السيد المسيح لبطرس الرسول، أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها؟ وقد قصد بالكنيسة الشعب المؤمن.
صديقي المطران جورج، كان علامة فارقة في كنيسته، في العالم المسيحيّ، في الحوار المسكونيّ، وفي الحوار المسيحيّ-الإسلاميّ. حمل قضيّة فلسطين على منكبيه وكتب فيها ودافع عن مظلوميتها، رأى أن الحج إلى القدس ليس إلى المكان بل إلى رب المكان، إلى الذي تجسّد في فلسطين وسار في قراها ومدنها لى أن بلغ به المطاف أن ارتفع على الصليب فوق الجلجة في القدس وهناك تحققت القيامة. لقد قرأها جزءًا من إيمانه المسيحيّ، وجزءًا من التزام المسيحيين والمسلمين لعروبتهم. لن ينسى الناس وجوده إلى جانب البطريرك الياس الرابع وغسان تويني وشاكر بو سليمان والمونسنيور إغناطيوس مارون رحمهم الله في القمة الإسلامية في لاهور حيث كان المثلّث الرحمات البطريرك الياس خطيب المؤتمر، ويقال بأنّ مضمون كلامه متماه بالضرورة مع رؤية المطران جورج. لن ينسى المتابعون ما كتبه عن القضيّة الفلسطينيّة وكأنه يكتب عن ذاته ومسيحيته، لن ينسى اللبنانيون كيف أنه بدوره رفض الحرب في لبنان، وذهب للتضامن والاعتصام إلى جانب الإمام موسى الصدر وكثيرين في الكلية العامليّة رفضًا لها. وقد رأى بأن هذه الحرب كلّها ضلال وتضليل، ومن شأنها أن تسلب فلسطين من الفلسطينيين، ولبنان من اللبنانيين، والمشرقية والعروبة من أبنائها لكي يصبح هذا المدى بلا جذور ولا هوية ولا حضور. وناضل بكتاباته ومؤتمراته لكي لا نتيه ولا نتزعزع بل نبقى راسخين حتى المنتهى، وكنت أواكبه كراع وصديق حبيب في الكثير من مواقفه، حيث تآزرت معها وعملت من موقعي غير مرّة على تجسيدها، وقد جسدها بدوره رئيس جمهوريتنا العماد ميشال عون في تجواله على الأديرة في سوريا وصولاً إلى براد.
المطران جورج خضر لم يستقل من قلوبنا وعقولنا، ولن يستقيل البتّة منها نحن الذين عرفناه وعاصرناه وأحببناه راعيًا وصديقًا حبيبًا ومفكّرًا وفيلسوفًا وأديبًا دأب على مناجاة سيده بعشق وهيام كما كتب صديقي وصديقه المقرّب الكاتب جورج عبيد. وإن استقال من عمله كمطران لأبرشيّة جبل لبنان فهو باق راعيًا لنا مطلاً إلى كلّ الأجيال محاكيًا لهم بالكلمة الصادقة وعابدًا لربّه ومعاينًا لضيائه.
سيدنا الحبيب جورج أطال الله بعمرك فأنت مستحقّ للحياة طالما طابت لك وطاب ربّك أن يستبقيك فيما بيننا لنظلّ نستزيد من رؤيتك ولا نشبع. ستبقى المنارة نستضيء منها ونحيا في بركاتها، وسنبقى نحبك ونحترمك إلى اللانهاية. ألا كان الله معك يا مطران المحبة والسلام، ووجهًا من نور.