كلمة محبة ووفاء وتقدير لسيادة المتروبوليت جورج خضر (بقلم المطران عطا الله حنا)

أكثر من ٦ سنوات فى تيار

لقد قدم سيادة المطران جورج خضر استقالته مؤخرا من منصبه الكنسي الرفيع وهو متروبوليت جبل لبنان جبيل والبترون وتوابعها للروم الارثوذكس وذلك بعد اكثر من 60 عامًا من العطاء والخدمة في الحقل الكنسيّ في الكرسيّ الانطاكيّ المقدس.ونحن بدورنا نسأل الله بأن يمدّ سيادة المطران جورج خضر بالعمر المديد.
لقد كان ومازال سيادة المطران جورج خضر علمًا من أعلام الكنيسة الانطاكية الشقيقة ولكنّه أيضًا كان وما زال علمًا من أعلام المسيحيّة المشرقيّة وقد ترك لنا عشرات المؤلّفات من الكتب التي تحتوي على مواعظه ومحاضراته وكلماته وأنا شخصيًّا أفتخر بأنني أملك غالبية مؤلفاته التي كانت بالنسبة لي مرجعًا هامًّا في أيّ موضوع لاهوتيٍّ أو كنسيٍّ أو فكريٍّ او ثقافيّ .
لا يمكننا أن نختزل شخصيّة المطران جورج خضر بمقالة لأن ما قدمه للمسيحيّة المشرقيّة ولقضايا العدالة والحرية والكرامة الانسانية لا يمكن اختصاره بمقالة او دراسة. فشخصيته وما قدّمه لربما تحتاج إلى كتب وإلى مؤلفات لكي تعطي هذا الرجل حقه وهو الذي أفنى حياته في الدفاع عن استقامة الايمان واستقامة الفكر والسلوك .
الكثيرون كتبوا وسيكتبون عن المطران جورج خضر ولكن لا بد ان تكون هنالك للقدس كلمة بحق هذه الشخصية الكنسية الرفيعة وهو الذي كان دائما يتحدث ويدافع عنها وعن تاريخها وتراثها وعراقتها واصالتها وفرادتها.
كتب الكثير عن القضية الفلسطينية وكان صوتًا صارخًا في برية هذا العالم مناديًا بالحرية لشعبنا ومطالبا بأن تتحقق العدالة في فلسطين الارض المقدسة ، كما أنه كان يبرز مكانة القدس في كل مؤتمر او منبر كان يعتليه.
التقيته في كثير من المؤتمرات وزرته في مقره في برمانا ، وقد تعرفت عليه قبل ان التقيه من خلال كتاباته ومواعظه ومواقفه التي سيسجلها التاريخ بأحرف من ذهب .
كتب الكثير عن القدس وقد جمعت كلماته التي تحدث فيها عن المدينة المقدسة في كتاب قيم كتب مقدمته شاعرنا الكبير الراحل محمود درويش .القدس تستذكر بوفاء واحترام وتقدير كلّ من وقف الى جانبها وقال كلمة الحق التي يجب ان تقال في هذا العالم المليء بالكذب والنفاق والانحياز الى جانب الظالمين على حساب المظلومين .
المطران جورج خضر كان دومًا نصيرا للضعفاء والمهمشين والمضطهدين في الارض ، لقد كان مدرسة فكرية كنسية لاهوتية فلسفية وكانت كلماته تدل على رقيّه وسموّ فكره وثقافته العميقة .
كان له دور رياديّ في النهضة الروحية في الكرسيّ الانطاكيّ المقدس وكان من مؤسسي حركة الشبيبة الارثوذكسية والتي يعتبر أبًا روحيًّا لها .إنه علم انطاكي بامتياز ولكننا ايضا نعتبره علمًا من أعلام المسيحية المشرقية التي دافع عن أصالتها وجذورها العميقة في تربة هذه الارض المقدسة.لا يمكننا كفلسطينيين أن ننسى دفاعه المستميت عن القضية الفلسطينية ومواقفه الثابتة التي لم ولن تتبدل او تتغير فقد كان دومًا ينادي بأن تتحقق طموحات شعبنا الفلسطيني وتطلّعاته، وكان دومًا يبرز عدالة القضية الفلسطينية في كثير من المحافل والمنابر والمؤتمرات .لقد كان صوتا مسيحيًّا مشرقيًّا بامتياز نفتخر به جميعنا .
اننا من رحاب مدينة القدس نرسل رسالة المحبة والوفاء والتقدير لهذا الأسقف الجليل الذي عمل دوما من اجل تكريس ثقافة الحوار والتفاعل والتلاقي بين كافة مكونات امتنا ومشرقنا ومنطقتنا .
نبذ الطائفية بكافة اشكالها والوانها ونادى دومًا بالانفتاح والحوار وتكريس لغة المحبة والاخوة والمصالحة ، كان داعية للحوار والوحدة الوطنية وكان يجذب اليه سامعيه ببلاغته وفصاحته ولغته العربية التي اتقنها ولربما يعتبر من اولئك القلائل الذين يتقنون لغة الضاد بهذا المستوى الفكريّ والانسانيّ والحضاريّ .
لك منا يا سيادة المطران كلّ المحبة والتقدير فالقدس لن تنسى اولئك الذين دافعوا عنها ووقفوا الى جانبها وكانوا عونًا لمقدساتها وابناء شعبها ، القدس لن تنسى اولئك الذين قالوا كلمة الحق التي يجب ان تقال.
القدس لن تنسى من دافع عنها باعتبارها مدينة السلام وعاصمة الايمان والمدينة العربية الفلسطينية التي يعتبرها الفلسطينيون عاصمتهم وحاضنة اهم مقدساتهم .
فلسطين الارض المقدسة أرض الميلاد والفداء والتجسد والقيامة توجه لك كلمة الشكر والتحية والامتنان والوفاء ، فلسطين الارض المقدسة تعبّر عن وفائها واحترامها وتقديرها لهذا الراعي الصالح الذي لم يكن راعيا لابناء ابرشيته فقط بل كان صوتًا منحازًا لكلّ انسان مظلوم ومعذب ومتألم في هذا العالم لا سيما شعبنا الفلسطيني .
ولن ينساك الانطاكيون الذين تعلموا منك الشيء الكثير ، ولن ينساك مسيحيو هذا المشرق العربي الذين يعتبرون مواعظك وكلماتك مرجعًا أساسيًّا لهم ، لن ينساك ابناء هذا المشرق مسيحيون ومسلمون وقد علّمتهم كيف يجب أن تكون المحبة والاخوة والمصالحة والعلاقة الطيبة بين الإنسان وأخيه الإنسان .أستذكر كلمتك الاخيرة التي قلتها لي في آخر لقاء ، بأن قلبي مع القدس ووجداني مع فلسطين ولن تكون لنا كرامة في هذا المشرق إلاّ بعودة فلسطين إلى اصحابها واستعادة القدس الشريف لكي يعود إليها بهاؤها ومجدها وقدسيتها .
ما أحلى وما أجمل ما كتبت يا أيها الحبر الجليل ، ما أحلى وما أجمل مواعظك وكلماتك التي من خلالها زرعت في نفوس المؤمنين حبة حنطة نبتت وكبرت وأعطت ثمارًا طيبة .
مهما كتبنا عنك لن نفيك حقك فأنت اكبر واعظم من أية كلمة او مقالة قد تقال فيك، وعظمتك هي في تواضعك ، كنت عظيمًا في كل شيء ولكنك كنت متواضعًا في كلّ خطواتك فعلمتنا أنّ عظمة الإنسان تكمن في تواضعه ومحبته للآخرين بدون حدود .
من رحاب كنيسة القيامة التي زرتها قبل عام 67 نرفع الدعاء الى الله امام القبر المقدس من أجلك ومن أجل الكنيسة الأنطاكية الشقيقة الجريحة والمصلوبة والمتألمة بفعل ما يرتكب بحقّ ابنائها .
وامام القبر المقدس، نسأل الله بأن يمدَّك بالعمر المديد لكي تواصل كتاباتك وتقدم لنا من فكرك ومن انسانيتك ومحبتك لكنيستك ولهذا المشرق العربي الذي كنت ومازلت وستبقى علمًا من أعلامه .نحبك كثيرا يا سيادة المطران وقد تعلمنا منك الشيء الكثير .
القدس حاضرة معك في قلبك فصلّي من اجلها وهي المدينة المصلوبة والمطعونة كسيدها ، صلي من اجل كنيستها وشعبها وإنسانها المكلوم والمظلوم والمعذب ، صلي من أجل فلسطين الأرض المقدسة التي تتوق الى أن تتحقق العدالة فيها، هذه العدالة المغيبة بفعل ما ارتكب بحق شعبنا من مظالم وانتهاكات خطيرة لحقوق الانسان .
نتمنى ان يتخذك الكثيرون قدوة لهم وأن يسيروا في طريقك وعلى دربك وان يتعلموا من مدرستك الفكرية واللاهوتية والكنسية .نتمنى ان نستمع الى الصوت المسيحيّ العربيّ المدافع عن فلسطين وعن قلبها النابض القدس الشريف ، فالقضية الفلسطينية هي قضيتنا كمسيحيين في هذا المشرق كما أنّها قضية المسلمين وقضية كل انسان حر في هذا العالم .
كنت حرًّا في مواقفك ودفاعك عن الحق فما أحلى وما أجمل ان نقرأ كلماتك التي يفوح منها طيب ايمانك وعراقة انتمائك وتشبثك بالمسيحية المشرقية الأصيلة التي بزغ نورها من هذه الارض المقدسة لكي يبدد ظلمات هذا العالم .
سنلتقي معك قريبا لكي نرى وجهك الذي يشع نورًا ونستمع الى كلماتك ونأخذ منك البركة فصلي من اجلنا واذكر شعبنا المظلوم في ادعيتك هذا الشعب الذي دافعت عنه دوما وهو وفيٌّ لك ولكافة اولئك الذين دافعوا عنه وانحازوا لعدالة قضيته التي هي أعدل قضية عرفها التاريخ الانساني الحديث .لك المحبة والتقدير والثناء والوفاء من القدس التي تبادلك المحبة بالمحبة والوفاء بالوفاء ، نقبل يمينك ملتمسين بركتك ودعاءك من أجل أن يتحقق السلام في ارض السلام ومن اجل ان تسود العدالة في هذه الأرض التي غُيبت عنها العدالة .

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على