غواية القراءة مغامرة في البحث عن آوجه الحقيقة ١٤

حوالي ٦ سنوات فى المدى

لقد كان دون كيشوت مهووساً بالقراءة، كان يقضي أيامه من الصباح الى المساء، ومن المساء الى الصباح يقرأ كتباً. لقد كان قليل النوم ويقرأ كثيراً لدرجة أن دماغه اصيب بالتكلس وانتهى مجنوناً. كان رأسه مملوءاً بكل ما يعثر عليه في الكتبسيرفانتيسذات مرة حاولت إحدى دور النشر الايطالية أن تكلف عدداً من الكتاب الكبار باعادة كتابة مسرحيات الكاتب الشهير لويجي بيراندللو " الحاصل على نوبل للآداب عام 1934، وقع اختيار امبرتو إيكو على مسرحية هنري الرابع، الكاتب الذي كتب اسم الوردة وبندول فوكو والعدد صفر فوكو اختار أن يعيد حكاية الشاب الذي خرج ذات يوم مع أصدقائه في موكب فروسية بملابس تنكرية فسقط من على حصانه إثر تعرض من أحد أصدقائه الذي كان ينافسه على حب فتاة جميلة، فاصيب بنوع من الجنون جعله يتوهم إنه الملك " هنري الرابع " وأخذ يرتدي ملابس الملك ويتصرف مثله، ولما شفي من مرضه آثر أن يبقى على وهمه ويعيش في علم الخيال، هرباً من الواقع المليء بالمفارقات والمآسي. فقد قرر أن يتخذ من الخيال عالماً حقيقياً له، حين اكتشف أن شبابه قد ولى وإن أصدقاءه قد تخلوا عنه، وإن حبيبته ارتبطت بشخص آخر، ولهذا صمم أن يعيش في علم الوهم، سعيداً بالمصير الذي رسمه لنفسه.يرتبط الوهم بالواقع. يقول أمبرتو إيكو:" كثيرون وجدوا في الخيال والأحلام عالماً مثيراً للغاية. فالحقيقة المطلقة لاوجود لها ما دام كل شيء في تغير متصل، وإن الوهم بالحقيقة أقوى وأثبت من الحقيقة نفسها ".كان لقائي الأول بكتب بيراندللو عن طريق مجلة مصرية اسمها " المجلة " يرأس تحريرها الروائي والقاص المصري يحيى حقي، فأثناء بحثي في المخزن التابع للمكتبة التي كنت أعمل بها عثرت على مجموعة مجلات صادرة في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، أخذتها معي الى البيت، وأذكر انني امضيت الليل أقلب بها، حيث انبهرت باسماء أسمع بها للمرة الاولى، والتقيت لأول مرة في حياتي باسم لويجي بيراندللو فقد وجدت في أحد الاعداد مسرحية قصيرة اسمها " الجرة " - قدمت فيما بعد على مسرح الفن الحديث في بغداد باسم " البستوكة " أخرجها سامي عبد الحميد ومثل شخصياتها الرئيسة الفنانة الراحلة زينب والفنان خليل عبد القادر - كان هناك تقديم قصير عن حياة الكاتب لا أتذكره الآن.. لكني انتبهت إنه نال جائزة نوبل ويعد من كبار كتاب المسرح في العالم. بدأت قراءة مسرحيته الصغيرة فوجدتها ساذجة حكاية من الريف الأيطالي أبطالها يصابون بالرعب والخوف لأن جرة كبيرة لأحد ملاك الأرض انكسرت. وحين يتم إصلاحها نجد الفلاحين انفسهم يرقصون فرحين ويغنون ومعهم صاحب الأرض. وما أن انتهيت من قراءة المسرحية حتى تساءلت مع نفسي هل يُعقل أن يمنح مثل هذا الكاتب جائزة نوبل.بعدها بأيام تجرأت وسألت المترجم المعروف يوسف عبد المسيح ثروت.. اقتربت منه وهم منهمك بتصفح عدد من الكتب الانكليزية. في تلك السنوات من عمر العراق كان يوسف عبد المسيح ثروت أثراً شاخصاً في مجال النقد المسرحي.. حدثته عن خيبتي في مسرحية بيراندللو واستغرابي من حصوله على جائزة نوبل، ابتسم كعادته قبل أن يتكلم، بعدها حدثني عن صاحب " الجرة " الذي اكتشفت إنه روائي وقاص مشهور، وانه لم يتجه لكتابة المسرح إلا بعد ان تجاوز الخمسين من عمره..ثم صمت قليلاً وهو يقول: بيراندللو فيلسوف أكثر منه أديب فهو يؤمن أن الحقيقة تتألف من حقيقتين، حقيقتها وحقيقتي، وهو يرى إننا ننظر الى الإنسان فنراه بنظرة غير النظرة التي يراها فيه الاخرون، وأيضاً غير النظرة التي يرى هو فيها نفسه ".. ثم قدم لي نصيحته الذهبية: " حاول أن تقرأ له ثلاثيته الشهيرة.. ست شخصيات تبحث عن مؤلف.. الليلة نرتجل..كل شيخ له طريقه "، ثم تركني ليعود الى هوايته المفضلة، التنقيب في الكتب.قبل أيام وأنا غارق في البحث عن كتب بيراندللو في مكتبتي المتواضعة.. تذكرت شريط فديو كنت قد شاهدته من قبل عن مكتبة أمبرتو أيكو حيث يتتبع المصور خطوات الروائي وعالم الألسنيات الايطالي في أروقة مكتبته الضخمة، نراه يمشي موغلاً في الممرات، ينعطف يساراً ويميناً ليدخل الى قاعة أخرى مليئة أيضاً بالكتب، بعدها نشاهده وهو يستل كتاباً من أحد الرفوف، ذات يوم يسأل أحد الصحفيين إيكو عن مكتبته الضخمة هذه هل قرأها كلها، فيجيب بابتسامة: نعم وذلك بلمسها.يخبرنا صموئيل بيكت إنه مولع بقراءة الكتاب الواحد أكثر من مرة، لأن القراءة المتعددة أشبه بخلط الوهم بالواقع، وهو ما حاول أن يقدمه في رواياته ومسرحياته بطريقة يصعب الفصل فيها بين الحقيقة والوهم، يكتب بيكت لا نكاد نولد حتى نموت وما بين الولادة والموت نعيش في ظل واقع هو وهم ووهم أشبه بالواقع ".************
لا ياحضرات السادة. بالنسبة لنفسي، أنا ما يعتقده الاخرونبيراندللوفي كتابه المقابسات يورد أبو حيان التوحيدي مقولة لأفلاطون يؤكد فيها أن للحقيقة وجوه عدة:" إن الحقيقة لم تصبها الناس من كل وجوهها، ولا اخطأوها في كل وجوهها، بل أصاب منها كل انسان جهة معينة، ومثال ذلك عميان انطلقوا الى فيل، وأخذ كل واحد منهم يتحسس جزء منه، فاخبر الذي تحسس الساق أن شكل الفيل طويل شبيه بجذع النخلة، وقال الذي تحسس الظهر ان شكله شبيه بالهضبة العالية والرابية المرتفعة، وقال الذي تحسس اذنه انه منبسط دقيق يطويه وينشره. فكل واحد منهم قد أدى بعض ما أدركه، وكل يكذب صاحبه ويدعي عليه بالخطأ والجهل فيما يصفه من خلق الفيل. فأنظر الى الصدق كيف جمعهم، وأنظر الى الكذب والخطأ كيف دخل عليهم حتى فرقهم ". كان الفلاسفة السفسطائيون يعتقدون إننا لاينبغي أن نبحث عن حقيقة ما من وراء انطباع معين يستوي على عقل الإنسان وعندما تبدو قضية ما وكأنها شيئاً معيناً بالنسبة ل " س " فإنها في نظر " ص" تعني شيئاً آخر، لأن حقيقتها هي ما تعنيه لكل منهما " كان الفيلسوف اليوناني بروتاغوراس أحد اشهر السفاسطائيين، ولد عام 487 قبل الميلاد.أهتم بالفلسفة بوقت مبكر من حياته، حاول أن ينظم فلسفة خاصة به أهتمت بالانسان فقط،. حيث كان يعتقد أن الإنسان هو مقياس كل شيء، أي أن الخير والشر الصح والخطأ، كلها يجب أن تُحدد بحسب حاجات الكائن.لم تصل لنا كتبه بسبب اراءه الصادمة للمجتمع، فقد كان رافضا للديانة التي كانت سائدة أنذاك، وقال: " لا أستطيع أن اعلم إن كانت الآلِهة موجودة أو غير موجودة وعلى أي صورة تكون، وذلك بسبب غموض الموضوع، وقصر عُمّر الإنسان". وهو الأمر الذي أدى الى إحراق كتبه.ظل بروتاغوراس يلقي الخطب في الأسواق، ويحاول أن يقدم صورة عن الحياة مختلفة وصادمة، فكان يؤكد أن ما يدركه شخص ما هو حقيقة بالنسبة له، وما تدركه أنت هو حقيقة بالنسبة لك، إذ انه لاتوجد حقيقة واحدة للعالم الذي نعيش فيه، ولكن ذلك لايعني انه لاتوجد حقيقة على الاطلاق، بل بالعكس حيث يؤكد بروتاغوراس أن هناك كّم من الحقائق لكل شيء في الوجود، لأن ما يدركه كل فرد هو حقيقة بالنسبة له.آمن السفسطائيين بأن الحقيقة نسبية في نظر كل من يؤمن بها، وكان بروتاغوراس يقول إن الحقيقة متناثرة في كل مكان وإن كل انسان يستطيع أن يحصل على قدر منها، ويؤكد مؤرخو الفلسفة إن بروتاغوراس أول من وضع مفهوم " النسبية ". وقد اهتم سقراط بأفكار بروتاغوراس فحاول مناقشتها كما دوّنها لنا افلاطون في محاورته " ثياتيوس " وخصوصاً مفهوم بروتاغوراس للنسبية التي حاول تفسيرها بأنها تعني أن: " أي شيء أرى حقيقته كما يبدو لي أنا وترى أنتَ حقيقته كما يبدو لك أنتَ ".وسنجد بيراندللو يؤكد مثما فعل السفسطائيون من قبل إن معيار الحق والحقيقة لفكرة ما، هو قدرتها على الاقناع أو ما لها من نصيب من النجاح في الإيهام والتسلط. وكان السفسطائيون قد استخدموا في سبيل الإقناع طريقة الأخذ والرد أو الجدل او المحاورة، وهو ذات الاسلوب الذي استخدمه بيراندللو في معظم أعماله الادبية.بعد نصيحة يوسف عبد المسيح ثروت الثمينة ومع قراءة أعمال لويجي بيراندللو اكتشفت انني ازاء كاتب نظرته للحياة مختلفة عن النظرة الشائعة لأي كاتب كنت قد قرأت له من قبل، نظرة تتأنى مع القارئ والمشاهد وترى شيئاً أبعد من الذي ندركه نحن. تتميز النظرة عندما تكون بيراندللوية كما اسماها غرامشي في مقال شهير له بعنون " بيراندللو بين الأدب والحياة "، بشيء من الخداع. رغم إنها لاتستعين مطلقا بما خارج الواقع. وتبدو دوماً قابضة على واقع ما، فاعمال بيراندللو تترك لدينا شعوراً بأن هذا الإنسان فقط يرى في الواقع حقيقة خاصة به، ويعيش في الوقت نفسه خارج هذه الحقيقة.في مقدمة أعماله الكاملة يكتب بيراندللو:" تريدون أن أذكر لكم شيئاً عن تاريخ حياتي، وليس أبغض إلي من هذا العمل. وما ذلك إلا لسبب بسيط، فقد نسيت أن أحيا حياتي، بل اكتبها ". ولِد كما يخبرنا في عام الوباء، في الثامن والعشرين من شهر حزيران عام 1867 في جزيرة صقلية التي اجتاحتها الكوليرا في ذلك العام، أبوه يملك مناجم للكبريت ويتاجر فيه، وأمه امراة نحيلة لا تفارق السرير، كان الأب يطمح أن يصبح إبنه تاجراً ماهراً في لغة الأرقام، فأدخله مدرسة مهنية، لكن الصبي الذي يهوى الغناء والمسرح وقراءة القصص المصورة طلب من أمه أن تساعده في يبتعد عن التجارة فقررت بالإتفاق مع خاله أن يُنقل الى القسم الأدبي مع الإحتفاظ بالسر عن الأب، وعندما انتهت الدراسة واكتشف الأب الخدعة قرر أن يحرم ابنه من الميراث، وهو الأمر الذي أثار سخرية الصبي بيراندللو الذي لم يكن يهتم بالمال قدر اهتمامه بالمسرح وقراءة الكتب، فقد كان آنذاك القصائد القصيرة التي يخفيها عن الآخرين. ويقرر التفرغ لدراسة اللغة الايطالية واعداد رسالة جامعية عن اللهجات المحلية، في هذه الفترة يكتب روايته الاولى " المنبوذة " عن قصة حب عاشها مع فتاة ثم اكتشف أن هذه الفتاة غريبة عنه، مثلما وجدت هي نفسها بعد ذلك غريبة عنه. ولم تنته قصة الحب هذه حتى وجد نفسه أمام مشكلة جديدة، فقد قرر والده أن يزوجه من " انتونيا " ابنة شريكه في مناجم الكبريت، ليجد نفسه يقع ضحية صفقة تجارية، ومرتبط بامرأة لم يعرفها من قبل، في هذا الوقت يقرر التفرغ للكتابة لتظهر اولى مسرحياته القصيرة، ثم ينشر مجموعة قصصية لم تحظى باهتمام النقاد واعتبرها البعض محاولات ساذجة في كتابة القصة القصيرة. تصاب زوجته بالشلل بعد أن قرأت رسالة والده الذي يخبره فيها بان ثروته ضاعت بعد أن غرق منجم الكبريت، وكان ذلك فصلا مؤلماً في حياة بيراندللو الذي قرر اعتزال العالم وتمنى أن يختفي من العالم من غير أن يموت وقد اعجبته هذه الفكرة فبدا يكتب أولى رواياته " المرحوم ماتياس وباسكال " حيث يطرح فيها للمرة الاولى مفهومه عن الخيال والواقع والحياة والموت والجنون والحكمة، والرواية تدور حول تحليل شخصية رجل فقير يدعى ماثياس باسكال هرب من زوجته وعائلته، قاصداً الهجرة إلى أمريكا، غير أنه وقف في طريقه بـ " مونت كارلو" ليجرب حظه على في القمار، فأسعفه الحظ وربح أرباحا طائلة، وحدث في اليوم التالي لإختفائه أن وجدت جثة غريق مجهول في النهر فاعتقد أهل مدينته أنها جثة ماثياس ليتم دفنه وتسربت الحادثة إلى ماثياس عن طريق الصحف وهو في مونت كارلو، فيقرر العيش مختفياً، متجرداً من شخصيته الحقيقية، متحررا من الروابط الاجتماعية، لكنه بعد أن يتعرى من شخصيته يفقد توازنه بدليل أنه يقول: " إن الشيء الوحيد الذي أوكده هو أنني كنت أدعى ماثياس باسكال". بل ربما نسى إنه كان يدعي بهذا الاسم! ".************
إن جميع مسرحيات بيراندللو قد حوربت من قبل الكاثوليكيين بسبب طبيعة إدراك بيراندللو للعالم. غرامشيفي العام 1930 كان انطونيو غرامشي، قد انهى سنتين من الحكم الصادر ضده بالسجن عشرين عاماً، بعد أن اعتقله رجال موسوليني وأودعوه أحد مراكز الأمن الفاشي، ايقن انذاك انه محكوم عليه بالموت البطيء بسبب مصاعب والآم حياة السجن.. في تلك الأيام الكئيبة كرس غرامشي سنوات السجن للتأمل والكتابة، كتب " كراسات السجن " و كتاب " تأملات في الادب والفن " خصص فيه فصلاً مطولاً عن لويجي بيراندللو يكتب فيه:" في بيراندللو نجد كاتبا صقليا يمكنه أن يدرك الحياة المحلية في لهجاتها وفلكلورها، وفي الوقت نفسه نجد فيه كاتباً إيطالياً وأوروبياً، لا بل نجد فيه أكثر من هذا الوعي النقدي لصقليته وايطاليته ولإوروبيته ".غرامشي الذي ولد عام 1891 عاش طفولة صعبة، وسط عائلة فقيرة جداً، وكان جميع أفراد العائلة يحاولون المساهمة في النفقات يكتب غرامشي:" بدأت العمل عندما كنت في الحادية عشر من عمري، وكنت أكسب تسع ليرات في اليوم أي ما يعادل ثمن كيلو غرام من الخبز، مقابل عمل عشر ساعات يومية، وكثيراً ما كنت أقضي الليل في البكاء سراً لأني كنت أشعر بالالم في كل أنحاء جسدي. لم أعرف إلا الجانب القاسي في للحياة ". عندما حوكِم غرامشي طالب ممثل موسوليني بأن يوقف هذا الدماغ عن الاشتغال. وعندما طلب القاضي من غرامشي أن يلتمس العفو أجاب:" هذه طريقة تعني الانتحار، وليست لي أي رغبة في الانتحار، لأنني لا أريد العيش مستعيرا شخصية انسان آخر، لست شخصية من شخصيات مسرح بيراندللو تستبدل قناعها بين لحظة واخرى.. أنا اسمي انطونيو غرامشي ".هل يستطيع كاتب أن يبين لنا كيف ولِدت إحدى الشخصيات في خياله أو لماذا ولدت.. يقول بيراندللو إن سر الخلق الفني هو نفسه سر الخلق في الطبيعة. ويضيف بيراندللو إن أي امرأة ترغب بان تصبح أمّاً، لكن الرغبة وحدها لاتكفي. وتصحو ذات يوم من نومها فتجد إنها قد أصبحت أمّاً، من غير أن تعلم متى حدث لها ذلك. وكذلك الشأن عند الفنان. إنه يختزن نفسه كثيراً في البذور الحية، ولكنه لايدري متى و لا كيف أستحالت إحدى هذه البذور إلى كائن ينبض بالحياة. وفي المقدمة التي كتبها لمسرحية " ست شخصيات تبحث عن مؤلف " يقول:" وجدت هذه الشخصيات الست أمامي، أحياء بحيث أستطيع أن ألمسهم، وأن أسمع أنفاسهم، لقد ولدوا أحياء. وها هم يطالبون بحقهم في العيش ".منذ الصفحة الأولى نحن في مسرح يتهيأ لتقديم عمل مسرحي جديد، حيث المخرج والممثلون منشغلون باعداد هذه المسرحية التي تروي امرأة تزوجت من رجل وأنجبت منه الابن الاكبر. بعد ذلك حدث أن أغرمت بسكرتير الأب وعشقته فأنجبت منه الأولاد الثلاثة الباقين، بمن فيهم فتاة. ثم فقد كل من الأب والأم الأصليين أثر الآخر، ودار الزمن دورته… وحين مات عشيق الأم، وجدت هذه نفسها وأطفالها في البؤس فعادت لتقيم في المدينة نفسها. وهنا وقعت الفتاة بين براثن امرأة تدعى مدام باتشي تمارس مهنة الدعارة، وفي منزل الدعارة الذي تملكه مدام باتشي،يلتقي الأب بالفتاة ويقيم معها علاقة من دون أن يعرف من هي. لكن الأم تدرك يوماً ما حدث وتسرّ الى زوجها بالحقيقة. ويشعر الرجل بالعار إزاء ما فعل ثم يدعو الاسرة لتقيم لديه، لكن ابنه لا يطيق وجودهم وتبدأ الشرور بالاستشراء… حتى تُقتل الطفلة غرقاً في الحوض، وينتحر الفتى الصغير مطلقاً النار على نفسه، وتذهل العائلة أمام ما يحدث، لكن الفتى الشاب سرعان ما يلتقط أنفاسه ويبارح المكان ساخراً. وهنا تتوقف المسرحية الأصلية التي كان المخرج ينفّذها حين تظهر الشخصيات لكي تطالب بحقها في حياة أخرى ونهاية أكثر اكتمالاً، لينقلنا بيراندللو الى عالم الوهم بالوقت نفسه لا يريد أن يغادر الواقع ونجد الشخصيات وهي تحتج:" إن المؤلف الذي وهبنا الحياة، كما ترى ياسيدي، لم يُرد أو يعد قادراً من الوجهة المادية على أن يسلكنا في عالم الفن. وكان ذلك منه جريمة حقاً ياسيدي، لأن من يسعده الحظ فيولد شخصية حية يمكنه أن يسخر حتى من الموت، إنه اسمى من الموت. إن الانسان الكاتب، أداة الخلق، يموت، أما مخلوقاته فلا تموت أبداً ". إن الشخصيات الست التي تبحث عن مؤلف هي هذه الشخصيات الفنية التي لاتقل حياة عن الشخصيات الواقعية. بل إنها لتمتد خلال الزمن وتسخر من الموت وتتحرر من سجن القبر. يسأل بيراندللو: أين هاملت ودون كيشوت وفاوست ومدام بوفاري، لن نجدهم تحت شاهدة من شواهد القبور.. إنهم أحياء..يموت الشعراء والكتاب الذين ابدعوهم ولم يموتوا هم.ينظر بيراندللو الى الى الجنس البشري وإلى نفسه فيكتشف أن الإنسان مُجمد داخل المفهوم الذي يكوّنه عنه الآخرون، فضلا عن المفهوم الذي يكوّنه كل واحد منا عن نفسه ويكتب في مقدمة مسرحيته الشهيرة الليلة نرتجل:" اذا ما استعرضنا في ذهننا الأوهام التي لم نعد نعتنقها والاشياء التي لاتبدو الآن مثلما كانت تبدو لنا، نحس إننا معلقون في فراغ، لسوف نتجادل في أن ما نشعر به اليوم، أي حقائق اليوم مقدر عليها أن تبدو أوهام الغد ".في روايته " كافكا على الشاطئ " يقدم لنا الروائي الياباني " هاروكي موراكامي " واحدة من شخصيات بيراندللو " ناكاتا العجوز " الذي يملك القدرة على التكلم مع القطط، لكنه يواجه صعوبات في التواصل مع البشر، ذو ماض مؤلم، وذاكرة محاها حادث غرائبي أثناء الحرب العالمية الثانية، حين تعرض للتسمم مع بعض رفاقه في الجيش، إثر تناولهم نباتاً أدى بهم، وبه إلى فقدان الذاكرة، يعيش على المساعدات الاجتماعية التي تمنحها الدولة وموهبة العثور على القطط الضائعة، شخصية غريبة، تعيش الحياة على طريقتها، يحاول أن يسترجع ذاكرته التي فقدها يوماً، يكتب وراكامي: " عندما كنت صبياً شاهدت مسرحية لبيراندللو اسمها كل شيخ له طريقة حيث وجدت إن للذاكرة وجوهاً كثيرة، وإن للحوادث والأحداث مرايا كثيرة أيضاً، وإن للوهم والاحلام طرقاً أكثر غرابة".

شارك الخبر على