الثقافة وسلوكيات المثقف

حوالي ٦ سنوات فى المدى

 نجم عبد الله كاظم : الثقافة تعجز عن تهذيب نتاج المستوى الاقتصادي المتدني والمرجعية الطبقية
 عالية طالب : الثقافة وعي متكامل بكل ما حولها فإن ظهر منها ما يفسدها فإن فما بَطُن منها بالتأكيد أكثر فساداً
 صلاح عباس : المثقف العراقي واقع تحت ضغوط تاريخية ووراثية يصعب إدراكها
 زينب المشاط
السلوك تصرّف جوهري أو ظاهري يمارسه الفرد خلال فعاليات ونشاطات يومية، ولكن...، ما هي المؤثرات التي من شأنها أن تؤثر على سلوكياتنا؟ بالتأكيد العامل الوراثي، وإن صحّ التعبير "البيئة التي نجد أنفسنا عليها" هي المؤثر الأول على سلوكياتنا، التي من شأننا أن نتحكم بها كُلما نضجنا من خلال ترويضها وتوظيف العوامل للإرتقاء بها بشكل صحيح، وهذا يأتي أيضاً من خلال عدّة عوامل من أهمها الثقافة، فتُرى هل تؤثر الثقافة على سلوك الفرد؟ وهل أفلحت الثقافة بتغيير سلوكيات المثقفين أو مُدعيّها؟
بداية ماذا نعني بالمثقف؟ هذا التساؤل الأول الذي طرحه الكاتب والناقد الاكاديمي د. نجم عبد الله كاظم قائلاً "هل هو الذي وصل في تعلّمه وقراءاته وثقافته وإطلاعه مستوىً معيناً كأن يكون بمستوى خريجي الجامعة أو الثانوية العامة أو طالب الجامعة؟ أم هو مَن مارس الثقافة هوايةً ومهنةً أو حرفةً من الكتّاب والأدباء والفنانين؟ سنأخذ كل هؤلاء بنظر الاعتبار."فهل يتطبع مثل هؤلاء أو يتعلم من الكتب ومن الثقافة التي يمارسها؟ يقول كاظم "أعتقد أن هذا يستدعي تساؤلاً ربما هو أسبق، وهو: هل يتطبع الفرد بالثقافة ويتأثر بما يقرأ وما يُتاح له من تعلُّم وثقافة؟ الجواب نعم بالتأكيد، لا يمكن للثقافة إلا أن تكون مؤثراً إيجابياً في من تُتاح له وفي من يمارس بعض مجالاتها من قراءة وكتابة وإبداع وغيره. ولكن ذلك يتحقق بدرجات مختلفة وقد يتلكأ وقد لا نرى له من شيء ملموس فعلاً في سلوك الفرد، بفعل عوامل مختلفة تحيّد هذا التأثير، أولها الاعتياد وما تطبع عليه الفرد قبل هذا من عادات وسلوكيات وطرق تعامل، خصوصاً حين يمتد هذا مدداً طويلة، ولهذا فأنت كثيراً ما تُصدم بسلوكيات تصدر من مثقفين لا تتواءم مع ما تعرفه عنهم من نشاط ثقافي." هنا منحنا كاظم اجابة عن جانب مما قد نُلامسه في بعض مثقفينا من تصرّفات صادمة. المستوى الاقتصادي المتدني للفرد- وربما المرجعية الطبقية الدنيا له- الذي عادةً ما يصاحبه، من حيث يريد أو لا يريد، من الممكن أن تعجز الثقافة أحياناً عن تهذيبها، وهذا هو السبب الثاني الذي وضعه د.نجم عبد الله كاظم مُضيفاً "ثالثها الظرف غير العادي، وكلنا يتذكر مثلاً كيف أثّرت ظروف الحصار في سلوكيات كل العراقيين، ولم ينجُ منها المثقفون، ورابعها السلطة أو نُظم الحكم، وأنا هنا أختلف مع من يلومون الفرد والناس على الممارسات المتخلفة والسلوكيات غير الحضارية ويبرّئون السلطة أو الحكومة ويشيع بينهم ترديد (قابل الحكومة شسوي إذا الإنسان تعبان ومتخلف؟)، فبرأيي إن السلطة أو الحكومة وفرض القوانين والتعليمات التي تنظّم السلوك والتعامل مع الآخرين ومع المؤسسات ومع الشارع وما إلى ذلك من التزام بنظام ونظافة ومرور يُسهم على المدى الطويل في ترسيخ هذه الالتزمات لتصير سلوكيات ذاتية للفرد.انتقالاً إلى تأثير الثقافة في المثقف تحديداً، وهو ما ينطبق على المثقف العراقي بالطبع، يجد كاظم " إن الثقافة تؤثر بإيجاب على المثقف، ولكن مرة أخرى أيضاً أن ما أشرنا إليه من عوامل تسهم في تحييد هذا التأثير بدرجات مختلفة." ولعل هذا تحديداً يفسر ما نحتار في فهمه وتعليله من سلوكيات تثير العجب عند الكثير من المثقفين، خصوصاً حين تكون الثقافة جزءاً جوهرياً وبنيوياً من تكويناتهم وشخصياتهم، كأن يكونوا كتّاباً أو أدباءً أو فنانين أو طلبة جامعة أو حتى أساتذة، ولا نريد أن نقول مفكرين. ويرصد كاظم مثل هذا التناقض أو الافتراق وعدم التواؤم ما بين هكذا شخصيات مثقفة وسلوكياتهم في "الشارع والمجتمع والجامعة ومكان العمل، كما يتمثل، مثلاً، في التعامل مع الزمن والمواعيد، ومع النظام، والعلاقات، وفي اقتقاد ثقافة الشكر والامتنان والاعتذار وقبول الاعتذار، وفي الصراحة والشفافية." ليضع كاظم أخيراً يده على الجرح العميق الذي أجرمه المُثقف على مدى طويل بحق الجنس الناعم، ويقول" إن موقف المثقف من المرأة ومن العلاقة معها، هو الذي يتجاوز كل تلك الحالات، فأنت قد تجد من وصل في ثقافته إلى أعلى المستويات يتخلى عن كل ثقافته في لحظة حين يتعامل مع المراة أختاً أو زوجةً أو حبيبة لا يرى فيها، في كثير من الأحيان، إلا أنثى يترتب عليها قمع وتهميش والأهم دورها في الفراش. ولعل هذا ما يفسر، تعلقاً بالأدب العراقي وتحديداً الرواية، حضور المرأة الشبقة والراغبة لاسيما حين تكون غربية إزاء الرجل المرغوب ولاسيما حين يكون عربياً أو شرقياً أو عراقياً، مما يعني ترسّخ هذا الفهم والسلوك موروثاً وتربيةً ونشأة بحيث لا تخترقه الثقافة فتغيره، كما لكم أن تجدوه في بعض روايات كتّاب مثل: سعد سعيد، وسعد محمد رحيم وسليم مطر وصموئيل شمعون وعبد الستار ناصر وعلي خيون وعواد علي وعبد الرحمن مجيد الربيعي."في رواية الأخير (الأنهار) مثلاً يقول المثقف وطالب الجامعة والسياسي (صلاح كامل) لصديقه (إسماعيل العماري) حين يرى هذا الأخير منه سلوكاً مع (هدى) لا يتناسب مع ما يفترض أنه يمتلكه من ثقافة ووعي وتقدمية: "أقول لك صادقاً. في هذا الرأس السخيف ما زالت تعشعش قيم ابدويّة جُبلت عليها. وكل تقدميتي تتلاشى عندما أواجَه بمثل هذا الأمر، أفهمت الآن؟".عندما شخّص علي الوردي، ازدواجية الشخصية، لدى الفرد العراقي، ربما شمل به الفنان والأديب والمثقف، ولو اننا استرجعنا سير بعض المثقفين العراقيين ومن مختلف الأجيال فسنجد الكثير منهم تتقاطع لديه أفكاره ورؤاه الفلسفية مع سلوكه اليومي ضمن العلاقات الاجتماعية مع الأسرة والمجتمع، الناقد التشكيلي صلاح عباس يشير إلى أن "المنطق السلوكي يفارق المنهج الابداعي في أغلب الأحيان، بينما ينبغي أن يكون هناك توافقا بين السلوك الاجتماعي اليومي وبين التوجه الإنساني الذي يطبع كل الاشتغالات الآداب والفنون، وحتما توجد مسوغات لذلك ولعل الدراسات المقدمة من لدن علماء الاجتماع العراقيين تلزم الخوض في المزيد من التجارب في هذا المجال لبيان الجدوى من البحوث والدراسات السسيلوجية."يعتقد عباس "إن المثقف العراقي واقع تحت ضغوط تاريخية ووراثية يصعب إدراكها من الوهلة الأولى وعلى هذا الأساس يجب تفهم الأوضاع البيئية العراقية، لاسيما أن التاريخ الحديث وعلى مدى أكثر من نصف قرن شهد حروباً وانتهاكات لا طائل منا وربما تؤثر على البنية الشخصية للمثقف العراقي الذي يكابد محنة وجوده ضمن هذا الصخب والموت المجاني وبذا فهو يتوه في عالم المزاج الصعب."يقول (شيللر) يتراءى لك المثقف حتى وان قضم أظافره ، يستند صلاح عباس لقول شيللر ذاكراً أن "هذا تحصيل حاصل للطبيعة الشخصية للمثقف باعتبار أن سلوكه اليومي وجملة انفعالاته ترتسم على ملامحه وهذا تأكيد على صدق المثقف مع ذاته ومع الآخرين." بالمحصلة تتكشف قيم الرؤية مع ميدان التطبيق العملي وكيفيتها المناسبة التي تؤمن نوعا من العطاءات المتواشجة مع غاياته الإبداعية وحتى لو كان المثقف العراقي ازدواجياً بين مناحي حياته الشخصية وبين عمله في حدود حلبة اشتباكه الثقافي ولكن ثمة استثناءات للقاعدة التي رسخها الباحث الأكاديمي الدكتور علي الوردي، حيث أن الطبيعة الشخصية في بعض الأحيان تتطابق بين السلوك اليومي وبين التوجه الفني والادبي على نحو مميز ومثير للإعجاب ذلك أن خصوصية الاشتغال الثقافي تحتم وجود الدوافع الإنسانية الشفافة والمهذبةبكل حال يعتمد تأثير الثقافة على سلوك المثقف تبعاً لنوعها، وأصولها، ونمطها "الجاد" أو مقدار انفتاح المثقف على آفاقها الانسانية المنفتحه على الآخر، الكاتب والمخرج المسرحي والاكاديمي عقيل مهدي يوسف يذكر أن" المثقف بالتأكيد يتعلم من الكتب فهي التي تصوّغ كيانه الشخصي والمعرفي وتعيد بناء موقفه من الحياة وتربط ماضيه بحاضره ومستقبله."أيضاً التأثير السلبي أو الايجابي للثقافة على سلوك الفرد مُرهن "بخيارات الفرد الاجتماعية والثقافية" كما ذكر يوسف مضيفاً" إن من واجب الفرد الانفتاح على معطيات الواقع، باثاً روح التعايش السلمي، مقاوماً المغريات المادية، ويكون حذراً في سلوكه وخياراته لكل لا يضلل وعي الجمهور." هناك أكثر من بعد سلوكي في هذا الموضوع – الثقافة التي تغذي العقل ، والتي تغذي السلوك النابع من العقل، والتي تغذي الوعي المتراكم من ذات المصدر، الكاتبة والروائية عالية طالب تجدّ أن الثقافة شبكة من المصادر والابعاد أما أن تتكامل أو "إن فشلت هذه المنظومة في اعطاء تأثيراتها على السلوك والوعي والادراك وفهم الآخر والتعامل الحضاري المجتمعي والتأثير الايجابي في الذات والآخر ، فأنها ثقافة لم تتعد حدود الذات نفسها وانغلقت على صاحبها ولم تدرك أن ما يكتسب من معلومة لا بد أن يؤثر على زاوية او اخرى ليظهر جليا في الشخصية بصورة عامة."تؤكد طالب إن "هناك من استطاع فعلياً أن يكتسب من الثقافة كل ابعادها الحضارية والسلوكية والفكرية، وهناك من تكسب من الثقافة ليحمل صفة " مثقف" للايقاع بالآخر وايهامه إن ما يفعله من أضرار هو حق مكتسب لانه يحمل صفة مثقف." الامراض الثقافية لا تقل انتشاراً عن الامراض البيئية وقد نجد انسانا بسيطاً لم يحمل اكتنازاً معرفيا ضخما لكنه يتمتع بسلوك حضاري وانساني مميز يفتقده من يتباهى بحجم معلوماته المستقاة من الكتب والتي بقت في ذات الكتب ولم تخرج الى دائرة الانسانية الرحبة التي تستطيع بسهولة أن تفرز من هو المثقف الحقيقي ومدعي وجودها، ختمت عالية طالب استطلاعي الصحفي هذا بخُلاصة كنت بحاجة لمن يقولها نيابةً عني لكي لا أكون صحفية تتحدث عن لسان حالها متناسية لسان حال الفرد الذي يجب أن أكتب عنه وقالت" الثقافة وعي متكامل بكل ما حولها فأن ظهر منها ما يفسدها فما بطن منها بالتأكيد هو أكثر فساداً."

شارك الخبر على