مقال المطران عطالله حنا وثيقة تاريخية وصرخة رجاء المسيحية الصهيونيّة تعمل على سلخ المسيحيين المشارقة من قدسهم ومشرقهم (جورج عبيد)

حوالي ٦ سنوات فى تيار

قادنا المطران عطالله حنّا المقدسيّ المناضل، في مقال كتبه تحت عنوان: "خطر المسيحيّة الصهيونيّة على المسيحيّة الفلسطينيّة"، إلى التمييز الجوهريّ بين مسيحيّة مشرقيّة طلعت من فلسطين وشعّت من القدس نحو أنطاكية ومنها إلى العالم، ومسيحيّة متصهينة أو صهيونيّة، أوجدت لنفسها "لاهوتًا" نافرًا مليئًا بالمغالطات التاريخيّة والتفسيرات اللاهوتية المارقة، تبيح فيه العنف والبطش والتطهير العرقيّ والدينيّ، وتؤدلج لصراع الأديان والحضارات، وقد نظّر اكابرها من امثال مارتن أنديك ودونالد رامسفيلد وجون بولتون سنة 2003 للدخول الأميركيّ غلى العراق، من دون نسيان بأنّ هذه الفئة التي كان منها أيضًا كوندوليزا رايس وديك تشيني وجورج بوش الإبن، قد واجهت بدورها معارضة من الكنيستين الكاثوليكيّة والبروتستانتية من دون أن تؤديّ إلى نتائج معاكسة.
 
يستند المطران حنّا على وثائق تاريخيّة ولاهوتيّة تظهر عداوة تلك المجموعة للمسيحية الفلسطينيّة واستطرادًا للمسيحية المشرقيّة العربيّة، تكشف في طياتها المآرب الواضحة خلف تفسيراتهم المنحرفة والتأويلية للنصوص الإنجيليّة، فهم بها ينحتون لاهوتًا حروفيًّا يؤكّد وعد الله لليهود بأرض أبديّة أزليّة تبقى لهم إلى الأبد، وكما قال المطران عطالله حنّا، إن تلك المجموعات تطلق تفسيرات خاطئة للإنجيل المقدّس تؤيّد بها وجود دولة إسرائيل بشكلّ كليّ ومطلق، وتعتبر بأن دولة إسرائيل تجسيد لوعد الله القائم في الكتاب، في حين أنّ تكوين دولة إسرائيل باعتصاب غاشم للوجود الفلسطينيّ وسلخ الفلسطينيين عن وطنهم الحقيقيّ تمّ بوعد بلفور وليس بوعد الله كما زعمت تلك المجموعة، وكما قال المطران عطالله، "الله لا يحلّ الظلم والتشريد والقتل واقتلاع الأبرياء من قراهم وبلداتهم".
 
يكشف المطران عطالله في مقاله خطورة ما ذهبت اتجهت إليه تلك المجموعة، والخطورة في حقيقتها وجوديّة بأسلحة لاهوتية فكرية فلسفية وسياسيّة. ففي وثائقها تتبنّى تلك المجموعة تظرية الفوضى الخلاّقة، لا بل تدعو إلى تحقيقها. وقد رأت غير مرّة بأنّ رسوخ المسيحيّة المشرقيّة في بلدان الهلال الخصيب أو برّ الشام، وانحياز نخبها لتعميم قيم الشراكة المسيحية-الإسلامية في الأردن وسوريا وفلسطين والعراق ولبنان وهي قائمة في لبنان، تؤدّي حتمًا إلى مجتمع متجانس يملك القدرة على الارتقاء نحو الثقافة الديمقراطية وتعميمها في تلك الأنظمة على جرعات، ومتى تمّ تعميمها بعمق وقوّة، صار مستطاعًا على المشارقة-العرب، أن يقتحموا العالم بأبحاثهم وإنتاجهم، أو يتحولوا إلى قوّة اقتصادية منتجة على مختلف الأصعدة تقاوم إسرائيل وتضعفها وتعيد للفلسطينيين حقًّا مغتصبًا. تلك المجموعة على ما يبدو ليست حديثة العهد، بل هي قديمة، وتهيمن بدورها على الوسائل الإعلامية ومراكز القرار، ولا يعترف لاهوتها بالمسيح الإله المتجسّد والذي صلب ومات ثمّ قام، وتبرّء تلك المجموعة اليهود من دم المسيح. بمعنى أن تلك المجموعة أقرب غلى الرؤية الآريوسيّة القديمة، والآريوسيّة بدعة نشأت من كاهن اسكندريّ زعم بأن المسيح مخلوق وبأنه مات ولم يقم. ويتبيّن بأنّه إنتاج يهوديّ رافض لمجيء المسيح، وأنّ الذي قبر سرقت جثته وليس هو المسيح.
 
أهمية مقال المطران المقدسيّ والمناضل، أنّه جاء في اللحظة الخطيرة التي تعيشها منطقتنا، وهو وإن حصر همّه في تأثير تلك المجموعة بلاهوتها المعوّج على فلسطين، لكنّه ينبه مسيحيي المشرق برمتهم أن ما حدث لهم انطلق من استراتيجية تنتمي إلى تلك المدرسة الحروفيّة المغلقة. وقد ظهرت وثائق كشفت بأنّ هذه المجموعة التي حكمت خلال عهد بوش كانت الرحم الحقيقيّ لظهور القوى التكفيريّة بإنتاجها عن طريق التعاون ما بين المخابرات الإسرائيليّة أي الموساد والمخابرات الأميركية CIA بمشاركة وبتمويل خليجيّ، وإرسالها إلى العراق وسوريا بصورة خاصّة، بثقافة تنزع الإسلام من تراثه الحقيقيّ ومعناه الشامل، ضمن مفهوم الرعاب الإسلامي أو الإسلاموفوبيا، بشيطنته أو أبلسته وجعله إسلامًا إرهابيًّا يعيش خارج دائرة الزمن والكون، والقضاء في هذه الدول على المسيحيين بقتلهم وتشريدهم وتفجير أديرتهم وكنائسهم وخطف مطارنتهم وكهنتهم وراهباتهم... وهذا بدوره يتماهى مع معاناة المسيحيين المقدسيين سواء بقرارات اتخذتها وتتخذها حكومة بنيامين نتنياهو بفرض ضرائب باهظة على كنيسة القيامة في القدس، وهو إمعان مفرط هادف إلى سلخ المسيحيين المقدسيين عن بيئتهم، أو من خلال بيع الأوقاف لوكالات يهوديّة تحولها إلى مستوطنات عن طريق بطريرك القدس ثيوفيلوس، ويصبّ ذلك في الهدف عينه، وقد جاء قرار الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب وهو مع نائبه ينتميان إلى تلك المجموعة المذكورة بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس تكريسًا لهذا التهجير المتعمّد وسلخ المدينة المقدّسة عن هويتها الذاتية الجامعة ما بين المسيحيين والمسلمين واليهود لتصير عاصمة إسرائيل وعاصمة اليهود الأبديّة وهذا يجسد وعد بلفور على أكمل وجه، كما أشار سيادة المطران عطالله حنّا.
 
 ليس من تماس وتلاق بين مفردتين متنافرتين، أي بين المسيحية والصهيونيّة. أنهما مفردتان متباعدتان في الجوهر والمحتوى. ذلك أنّ المسيحية تنتمي إلى الله المحبّة، فيما الصهيونيّة تنتمي إلى "الله القوميّ" المأخوذ إلى تمزّقه في صراع الحضارات والأديان. والصهيونيّة تظنّ بأنّ الله وكما قال المغفور له غسان تويني وبسخرية "اشو الله عندو مكتب عقاري بسجل أراضي بإسم هيدا الشعب أو هيداك الشعب؟!". الصهيونيّة كفكر تحدّ من وجود الله وتجعله خاصًّا بحقّ قوميّ-جغرافيّ، وهي مستعدة لتمزيقه في صراعات أممية ودينية شريطة ضمان بقاء إسرائيل بقدسها دولة أبديّة أزلية لإسرائيل، وتلك الحركة دعت دومًا إلى طرد الفلسطينيين من فلسطين التاريخيّة وتشريدهم والتنكيل بهم، وهي رافضة للوجود المسيحيّ الأصيل وتعمل على تهجيرهم من سياقهم الجغرافيّ التاريخيّ إلى أن يفرغ المشرق من حضورهم التاريخيّ الوطنيّ-العروبيّ الناضج.
 
وفي مقاله، يعلن المطران حنّا: "ان القضية الفلسطينية هي قضية مسيحية لأنها مرتبطة بأرض تباركت وتقدست بحضور السيد المسيح ونحن في هذه الأيام التي ابتدأنا فيها مسيرة الصوم التي توصلنا إلى القيامة نؤكد بأن أرضنا ستبقى أرضا مقدسة ومدينتنا القدس ستبقى مدينة مباركة عاصمة للسلام والمحبة والأخوة ، عاصمة لفلسطين ولشعبها". وإعلانه يعبّر عن حقّ المسيحيين المقدسيين بتضامن مسيحيّ مشرقيّ حولهم ولأجلهم وتلك مهمة الكنائس المارونية والأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة في هذا المدى. لقد بات لزامًا بأن يدرك بطاركة تلك الكنائس بأنّ فلسطين وسوريا ولبنان والعراق والأردن من دون وجود مسيحيّ يؤكّد بلا التباس نهاية الله المحبّة في التاريخ البشريّ، فهل هذا ما نريده؟
 
ويختم المطران عطالله حنّا مقاله: " نؤكد في موسم الصوم الأربعيني المقدس تشبثنا بوطننا وتعلقنا بقدسنا ومقدساتنا ورفضنا وتنديدنا لأي محاولات هادفة لتشويه نضال شعبنا وكفاحه من أجل الحرية .
 
 ندائي أوجهه إلى الكنائس المسيحية في عالمنا كافة بأن ترفع صوتها دفاعا عن القدس وعن فلسطين الأرض المقدسة ، عندما يدافع مسيحيو عالمنا عن القدس وفلسطين فهم يدافعون عن جذور إيمانهم وعن مقدساتهم ويدافعون عن أرض مقدسة غُيّب عنها العدل والسلام، وهي تتوق إلى أن يعود إليها سلامها المغيب وان تتحقق فيها العدالة لكي ينعم شعبنا الفلسطيني بالحرية التي يستحقها ويناضل في سبيلها .
 
مقال المطران عطالله وثيقة تاريخية وصرخة محبة يفترض الركون إليها وتعميمها حتى لا يتعثّر المسيحيون في حضورهم التاريخيّ المنتمي جذرًا إلى بيت لحم والقدس الشريف مرورًا بأنطاكية وصولاً إلى العالم أجمع.
 
وفي النهاية إنّ موقف رئيس الجمهوريّة اللبنانية العماد ميشال عون حول ما حدث لكنيسة القيامة أكّد بالضرورة على المستوى السياسيّ هذا اللصوق العميق، ذلك أن ميشال عون ليس رئيسًا للجمهورية اللبنانية فحسب بل هو زعيم مسيحيّ مشرقيّ بل زعيم المسيحيين المشارقة يقف عند قضاياهم في سوريا والعراق وفلسطين. هذا ظهر في زيارته لكنيسة سيدة النجاة في بغداد، وظهر سابقًا في سوريا، ويظهر الآن في القضيّة الفلسطينيّة. والرجاء أن تستتبع تلك المواقف بخطوات عملية متفاعلة مع أرض الواقع تحدّ من تلك الاعتداءات وتعيد الاعتبار إلى الدور المسيحيّ المشرقيّ الراقي على المستويات كافة، فهو يكشف أنه وليد النور، ولا شكّ أن النور سينبلج في القدس والمشرق لحظة القيامة المضيئة والمشعّة فينا ومن خلالنا ببهاء عظيم.

شارك الخبر على