الصفقة – الكابوس

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

ليست مجرد صفقة ولكنها كابوس، فالغاز الإسرائيلي يستعد ليغزو مصر، يدخل شبكتها القومية ويتغلغل في بيوتها، بينما تتدفق مليارات الدولارات من عرق الشعب المصري من أجل تمويل تعليم وصحة ورفاهة الأجيال القادمة من إسرائيل، ليكونوا مقاتلين أشد، ينتزعون المزيد من الأرض ويزهقون آلافا من الأرواح، نحن ندعم العدو الوحيد الذي كان والذي سيبقى عدوا، مهما تبدلت ألوان الأقنعة وتغيرت أنظمة الحكم، فهناك صراع لن ينتهي، وأناس تُسلب أرضهم كل يوم، وتسفح دماؤهم كل لحظة، ورغم ذلك نقوم بتمويل هذا العدو ليصبح أكثر قوة وليعلو علينا اقتصاديا واجتماعيا، أي كابوس أشد وطأة من هذا.

صمتَ صوت العقل، ومسحت الذاكرة، وأصبحنا لا نفكر إلا في لحظتنا الآنية، ندفع من نقودنا ثمنا لبضاعة مسروقة، هذا الغاز مسروق من حقولنا وحقول قطاع غزة ولبنان، ناهيك بأن إسرائيل دولة محتلة لا يحق لها أي قطرة من الغاز، ولكن حتى ولو رضينا مرغمين بوجودها، وابتلعنا على مضض الحدود التي فرضتها علينا، فتلك الحقول هي خارج نطاقها، ولكن لأنها تملك القوة المطلقة في هذه المنطقة الهشة تستطيع أن تفرض إرادتها وتأخذ ما تريد، غزة لا تستطع الاعتراض لأنها كيان محاصر، يمكن قطع أسباب الحياة عنه في أي وقت، لبنان ليس محاصرًا ولكنه ضعيف عسكريا إلى حد مخجل، وكل ما ستقوم به هي أن تقدم شكوى للأمم المتحدة وأن تلجأ للتحكيم الدولي، وحتى لو جاء التحكيم في صالحها فلن تستطيع تنفيذه، سترضخ رغما عنها، أما نحن فالمسألة غير مفهومة، وغير واضحة، فالبترول الموجود في المتوسط يقع في المساحة البحرية بين مصر وقبرص، ولكن إسرائيل اخترقت هذه المساحة بالقوة وأنشأت حقل ليفياثان واستولت على 40% من المساحة التي هي من حق مصر وحدها، وامتلكت عن غير حق مصادر للغاز تبلغ قيمتها 200 بليون دولار، لقد جن جنون خبراء المساحة المصريين وهم يدافعون عن هذا الحق، وتم عرض عشرات الخرائط، ولكن سطوة إسرائيل وخلفها أمريكا جعلتنا نلتزم الصمت، دون اعتراض أو حتى تقديم شكوى، أصبحنا بدرجة ضعف لبنان، ولكنه أفضل منا لأنه على الأقل ليس مرغمًا على دفع ثمن ما سرق منه.

وما يزيد الكابوس سوءا أن هذه الصفقة تأتي بعد اكتشاف حقل "ظهر"، ذلك الاكتشاف الذي بعث الأمل في نفوس المصريين في أن نحصل على احتياجاتنا المحلية، لا نريد أن نكون محورا للغاز في المنطقة كما يشاع، ولا نريد أن نصدر الغاز كما نحلم، ولكن فقط أن نصل إلى نوع من الاكتفاء الذاتي، وقد بدأ بالفعل تشغيل هذه الحقل بما يقارب من ثلث طاقته، ومن المفترض أن يعمل بكل طاقته بعد عام من الآن تقريبا، هكذا كانت كل التصريحات، وردية وجميلة ومطمئنة على الغد القادم، ولكن الصفقة - الكابوس جعلتنا نفيق من كل هذه الأحلام، اكتشفنا أن حلم الاكتفاء الآتي قد تلاشى فجأة، بل أننا نمد أيدينا ونعرض نقودنا على أعدى أعدائنا، دعنا من القول أن الذي قام بالاستيراد هي شركة خاصة ليس لها علاقة بالدولة، فهذه حجة سخيفة لا تستحق عناء المناقشة، فنحن لا نتحدث عن استيراد البطاطس، ولكن عن سلعة استراتيجية لا يمكن استخدامها إلا من خلال مرافق الدولة ومؤسساتها، وهو ليس اتفاقا مؤقتا ولكنه يستمر لعشر سنوات، أي أنه يتمتع بضمانة قوية ومبلغ ضخم يصل إلى 15 مليار لا يمكن توفره إلا من خلال الدولة، كما أن مدة الاتفاق الطويلة تجعلنا نتساءل عن إمكانيات حقل ظهر الذي قيل إنه سيكفينا بدءا من العام القادم، فهل هذا صحيح أم أننا سنعود لنتسول الوقود حتى من عدونا الأبدي؟

وقد تضاعفت المخاوف بعد ما نشر عن الجهات التي تملك حقل "ظهر"، فنحن كنا نعرف أنه مشاركة بين مصر وشركة إيني الإيطالية، نسبة الشركة 60% لقاء التنقيب ومصاريف الاكتشاف، وحصة مصر هي 40%، ولكنها ليست خالصة لها، فهي تخضع لتقسيم آخر تأخذ الشركة الإيطالية بمقتضاه 40% منه لقاء الاستخراج، وتترك لنا في النهاية حصة لا تتجاوز 60% لكي نستخدمها محليا، نسبة صغيرة وضئيلة ولكن هذا ما يحدث في مجال استخراج الغاز، وما يحدث للدول التي لا تملك الإمكانيات اللازمة لاستخراج الغاز، ثم تبين أن لنا هناك شركاء آخرين في نفس الحقل، شركة روسية لها 30% وأخري قطرية لها 20% وشركة بترولية أخرى لها 10%، كل هذه الأسهم التي تزيد على المائة في المائة هل هي من حصة الشركة الايطالية، أم من صميم حصة مصر، أم من كامل الحقل بشكل عام؟ باختصار هل ما زال لنا أسهم في هذا الحقل أم فقدنا الأسهم التي تخصنا، هل حدث معنا كما حدث مع الخديو إسماعيل عندما فقد أسهم شركة قناة السويس رغم أنها موجودة في أرضنا، أم أن حصة مصر لا زالت محفوظة؟ هل صفقة الغاز مع إسرائيل لها هدف مؤقت، أم أنها ستكون حاجة دائمة، كل هذه الأسئلة جزء من الكابوس.

تبدو هذه الصفقة مثل جبل الجليد العائم، ما يظهر منها أقل بكثير مما هو مخفي، وتثير أسئلة تبحث عن إجابات، لكنها تظهر فقط من جانب واحد هو الجانب الإسرائيلي الذي تعودنا دائما أن يعلن ويصرح ويتباهى، بينما نلتزم نحن الصمت، وعندما نُرغَم على الكلام نصرح بكلمات عامة خالية من أي معلومة حقيقية، فرجل الأعمال علاء عرفة الذي ظهر فجأة على مسرح الأحداث والذي تمت الصفقة على يديه لا توجد له أي صلة بالغاز، فهو ضليع في تجارة الملابس، واحد من أبطال اتفاقية الكويز التي تربط صناعة النسيج المصري بإسرائيل، وربما تم اختياره لهذا السبب، فهو مجرد واجهة تتم من خلفها كل الصفقات،  إنه حسين سالم جديد، مخفي وغامض لا يدلي بأي تصريح، تتحرك الأحداث وهو لا يتحرك إلا ليوقع ويقبض، ولكن أغرب التصريحات التي صدرت لتبرير الصفقة هي ما قاله مسئول رفيع بأننا يجب أن نبحث عن السعر الأرخص، كأنه لا توجد قيمة للدم المصري الذي سال في صراعنا الطويل، ولا قيمة للدم الفلسطيني الذي ما زال يسيل وأرضهم تنتزع منهم، إننا نضع أيدينا في أيدي القتلة لمجرد أنهم قدموا لنا تخفيضا في بضاعة لا تخصهم.

الغاز موجود حولنا في كل مكان، ربما كان أغلى قليلا، ولكنه في حوزة الأشقاء، في الجزائر وفي السعودية، ويمكن أن يردوا لنا الثمن بصورة أو بأخرى، وسيكونون معا في السراء والضراء، فالعلاقات بيننا لا تنتهي وليس لها حدود، ولكن كل دولار يذهب إلى إسرائيل سيعود علينا بالدمار، ويكفي أن نعرف أنها ستستخدم هذه الأموال في تطوير برامج الصحة والتعليم لأطفالها بينما الطفل المصري لا يجد تعليما جيدا ولا رعاية صحية مناسبة، وسيظل الحال هكذا ما دمنا نفكر بهذه الطريقة الانتهازية.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على