خيري شلبي

أكثر من ٧ سنوات فى التحرير

أثناء إعادة ترتيب مكتبتي، فكرت أن أغير ترتيب الأرفف حسب موضوعات الكتب، وأن أرتبها هذه المرة حسب المؤلفين بالذات فيما يتعلق بشغل الكبار، وتصادف أن بدأت بنجيب محفوظ، فاستقرت مجلدات أعماله الكاملة فى صدارة المكتبة، وجدت فى قلب أحد المجلدات ورقتين من عدد قديم من مجلة الإذاعة والتليفزيون كان بهما مقال للعم خيرى شلبى عن الشيخ محمد رفعت.. اندهشت من سر احتفاظى بهاتين الورقتين منفردتين، فقرأتهما فوجدته فى نهاية المقال يشير إلى صحفى شاب نابه كتب فى "نصف الدنيا" تحقيقًا عن الشيخ الراحل استعان العم خيرى بمعلومة وردت فيه لكتابة البورتريه عن الشيخ رفعت، كانت المعلومة عن ظروف مرض الشيخ رفعت وكنت أنا الصحفي الشاب.

كان هذا فى نهاية التسعينيات، وبعدها بعدة سنوات كان العم خيرى شلبى يأخذنى من يدى أنا وبعض أصدقائه لمقابلة بطل إحدى رواياته.

كنت مفتونًا بكتاب "منامات عم أحمد السماك"، وصيحته الشهيرة "أنا منامى ماينزلش الأرض أبدًا"، وكنت أعتبر الحكايات التى تقول إن أحمد السماك شخصية حقيقية بعضًا من أساطير ينسجها المثقفون حول الأعمال التى يحبونها، إلى أن وجدت نفسى أدخل على أحمد السماك فى بيته وأتناول معه طعام العشاء، ونجلس نستمع إلى حكايات الصداقة التى تجمع العم خيرى بالعم أحمد، كانت ليلة أسطورية جمعت بشرًا لا علاقة لهم ببعضهم، فبجانب صاحب الكتاب وصاحب البيت كان هناك حمدى نوح لاعب الكرة الشهير فى الثمانينيات وأحمد عبد العزيز الفنان المعروف، والشاعر إبراهيم داود، والروائى ياسر عبد اللطيف، كنت أسرق نظرات باتجاه العم خيرى عندما يهم بالكلام فيصمت الجميع مأخوذين بسحره فى الحكى، العم خيرى ما إن يبدأ الحكى حتى تنصت الجمادات قبل البشر، لكننى لم أكن مندهشًا بالقدر نفسه الذى جمعنى به الحكى بالعم خيرى للمرة الأولى.

قبل هذه الواقعة بفترة كان العم خيرى يزور "الأهرام" لتسليم واحد من مقالاته التى كان يكتبها بغزارة أحسده عليها، وبدأب يليق بشاب فى بداية رحلة الكتابة وبكثافة لا يخلو سطر واحد فيها من المتعة، فمر بصالة التحرير فى "نصف الدنيا"، وتصادف أنه لم يكن هناك أحد غيرى، بعد القهوة سألنى "بتقرا إيه الأيام دى؟"، فقلت له -وأنا أعتقد فى نفسى أننى ماهر فى الدعبسة والتنقيب فى التاريخ بكل تفريعاته-: "أفتش خلف بديع خيرى، لأننى أرى أنه كشاعر كان مظلومًا ولم يأخذ حقه"، حكيت له عن بعض المعلومات والطرائف والقصص التى وصلت إليها، بعدها استلم العم خيرى الميكروفون منى وأعطانى درسًا فى بديع خيرى طال لأكثر من ساعة، كنت أجلس أمامه مندهشًا فاتحًا فمى ببلاهة كحازم إمام الصغير لاعب الزمالك، تقريبًا قرأ علىَّ العم خيرى كتابًا كاملًا عن بديع خيرى لم ينسَ خلاله أن يصحح لى كل ما جمعته من معلومات.

العم خيرى رائد فن الدعبسة فى الوطن العربى، إذا نحَّيت جانبًا رواياته بكل ما فيها من دعبسة فى قصص البشر، تظل لديك قائمة بها تجليات الدعبسة فى تاريخ مصر وجغرافيتها، فى تاريخ الأدب والأدباء، "أعيان مصر، بطن البقرة، مرسى جميل عزيز، أبو حيان التوحيدى، غذاء الملكات، محاكمة طه حسين"، قائمة طويلة لا يكفى المقال لوصف ما أضافته من معرفة للمكتبة العربية.

للعم خيرى محبة خاصة فى قلبى، عوضنا الله به عن خسارة عدم اللحاق بمقابلة كبار المهنة وجهًا لوجه، ومنحتنى جلساتنا معًا شحنة لا يزال مفعولها ساريًا حتى اليوم، فمنحته أنا رف المكتبة الأقرب إلى مقعد القراءة.

شارك الخبر على