راجح داود.. مؤلف موسيقى روح الأمة

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

بعض الشخصيات يجد المرء صعوبة في الكتابة عنها، بقطع النظر إذا كانت شخصيات عامة في السياسة أو الاقتصاد أو الفنون أو الثقافة، ومصدر ذلك عدم المعرفة الشخصية المباشرة التي تجعل من هذه الشخصية، أو تلك عصية على فهم بعض أغوارها وأبعادها خارج الحقل الذي تعمل في إطاره وقدمت إنتاجها في سياقاته، وذلك على الرغم من يسر الكتابة عن الإنتاج الفكري أو الموسيقي أو في الفنون التشكيلية، أو في مجالات السرد الروائي والقصصي والمسرحي والشعري، لأن التركيز هنا على الأعمال أو بعضها، وتحليلها نقديًا من كافة جوانبها. صعوبة عدم الاقتراب من الشخصية وفهم مفاتيحها ورؤاها إزاء العالم والإنسان والحياة، يتمثل في غياب البُعد الإنساني عن مقاربة بعض هذه الشخصيات. 

بعض المبدعين تشكل أعمالهم تعبيرًا - مركبًا عن إبداعهم ورؤاهم وأحاسيسهم الإنسانية المرهفة في الشعر والسرد والموسيقى والتصوير الفوتوغرافي والتشكيل والنحت والسينما والمسرح.. إلخ، لكن غياب المعرفة الشخصية المباشرة ببعضهم، تجعل شيئًا ما غائبًا، في فهم هذه الشخصيات المبدعة. من الشيق إبداء ملاحظة شخصية أن بعض هؤلاء من الأصدقاء، ومع ذلك تجد صعوبة في تلمس بدايات الخيوط والعلامات التي تفتح أشرعة الإبحار في فهم هذه الشخصية، ومن هؤلاء صديقي الغالي الموسيقار راجح داود، هل يعود ذلك إلى أواصر الصداقة والمحبة والقرب الشديد الذي يجعل المرء يعايشه ويتعرف على تفاصيل حياته ويقبلها ويتوافق معها، ويجعله بعيدًا عن النظرة البصيرة الناقدة؟ أم أن بساطتة وحيويته وتفاؤله، وصمته أحيانًا، وحديثه المتدفق المستمر في عديد الأحيان، يجعلك متعايشًا مع شخصيته الجميلة بلا توتر؟ راجح داود إنسان جميل في ظل سياقات من القسوة والهشاشة والعنف اللفظي والشرور وقلة المحبة في الحياة اليومية، بحيث يجعلك تقف أمام شخصيته الجميلة المتعددة الأبعاد باحترام ومودة، وتضعه في إطار ثمين بعيدًا عن هذا العالم المترع بالقسوة والأحزان؟ هل شخصيته صعبة المنال لغير عارفيه على الرغم من وضوحه، وبساطته، وبراءته، وضحكاته الطالعة من قلب محب للناس وللحياة وللأصدقاء؟ ضحكات تبدو في بعض الأحيان محمولة على السخرية الناعمة غير الجارحة. شخص مُركب شأن أي مبدع كبير، وينظر بعمق وتحليل إلى الحياة والناس والتفاصيل، وموسيقى الحياة اليومية الصاخبة، ويستقطر من حناياها روح موسيقاه المركبة التي تحمل مزاج مؤتلف من روح الموسيقى الكلاسيك، وروح الموسيقى العربية وتراثها الكبير في ثرائه وترهله وإعادة إنتاج جمله، والتي تبدو في عديد الأحيان وكأنك إزاء لحن واحد، أو عدد من الجمل الموسيقية يكررها غالبُ الملحنين، مع استثناء للقلة المبدعة كالقصيبي، وعبد الوهاب، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي، ومحمد فوزي، وبليغ حمدي ومحمد الموجي وكمال الطويل، والرحبانية، وقلة آخرين.

التأليف الموسيقى – والأوكسترالي – ليس عملاً أكاديميًا محضًا، ولا تعبير عن التدريب والتكوين الموسيقي في الأكاديميات الغربية، إنما عملُ إبداعي بامتياز، ولا يتاح الإبداع في عالمه الفاتن إلا لقلة قليلة، ومن هؤلاء راجح داود صديقي الغالي، الذي استطاع توظيف مهاراته وقدراته الخاصة، في الجمع بين روح وبناء الموسيقى الأوبرالية، وبين عمق روح الموسيقى العربية في لُبّ لبابها، وليس في حواشيها وزوائدها التي تُعيق الإبداع في سياقاتها وعالمها الذي تعتريه بعض من الرتابة والحشو والتصنع والإيقاعات المملة والرتيبة!

في غالبُ أعمال راجح داود التأليفية، تكشف عن القدرات والمهارات التكوينية في بناء القطع الموسيقية، وفي ذات المستوى استنطاق روح العمل أيًا كان، سواء موسيقى تصويرية كما في أعماله مع المخرج الصديق والمبدع السينمائي الكبير داود عبد السيد، وهي أعمال بالغة التميز في تاريخ السينما المصرية، لأنها تعبير عن رؤية مبدعة لمخرج بارز ومثقف كبير، وإنسان رائع يمتلك روحًا وعقلاً مبدعًا، وتكوين سينمائي نادر كمخرج وكاتب سيناريو، وعين سينمائية بصيرة وذكية، وانتماء وطني وإنساني مصري عميق وأصيل. تضافرت إبداعات الصديقين العزيزين داود عبد السيد، وراجح داود في تألف وتواشج جدُ فريد ومتناسق ومتكامل، بحيث تشكل الموسيقى التصويرية روح العمل الفيلمي والسيناريو، وهي تجربة متميزة في تاريخ السينما العربية، وذلك على نحو ما يبدو في موسيقى أفلام، الصعاليك والكيت كات، وأرض الأحلام، وأرض الخوف، ومواطن ومخبر وحرامي، ورسايل البحر، آمل أن تستمر هذه التجربة الفريدة لتكون بمثابة درس لآخرين من السينمائيين والمبدعين المصريين والعرب. من ناحية أخرى لم يقتصر إبداع راجح داود على السينما، إنما امتد إلى بعض الأعمال السينمائية الأخرى مثل الراعي والنساء والكلام في الممنوع، ومع الصديق المخرج الكبير الراحل المقيم محمد كامل القليوبي في فيلم خريف آدم، وإيناس الدغيدي. إضافة إلى عديد من المسلسلات التلفازية حصل على عديد الجوائز الهامة، نظرًا لتميزه الإبداعي.

إن تأليف راجح مؤخرًا للسلام والنشيد الوطني لجمهورية موريتانيا ونيله وسام فارس، يشكل دلالة رمزية على بقايا الدور الثقافي المصري في الإقليم العربي المأزوم، بعد تراجع هذا الدور خلال العقود الماضية، وأصبح ثالث ثلاثة من الموسيقيين المصريين الكبار قاموا بتأليف موسيقى السلام الوطني لبعض الدول العربية الشقيقة، محمد فوزي للجزائر، ومحمد عبد الوهاب لليبيا. راجح داود موهبة مصرية كبيرة نضجت من خلال عملها الإبداعي فقط، ولا علاقة له بالعلاقات العامة الكاذبة، التي يلجأ إليها عديد من الشخصيات غير الموهوبة من المديوكرات والمنيوكرات،

وإنما من خلال العمل الخلاق والجهد الدؤوب نسيج وحده، وهو موضع تقدير المصريين المثقفين الكبار ومتلقي موسيقاه الجميلة التي تُعبر عنا بصدق وشفافية.

مبروك يا راجح، وكفاية كلام بلا انقطاع في جلساتنا، أنت تحضرها كصديق مستمع، وليس كصديق متكلم، وكفاية ثم تدريبك على الكلام، يمكنك فقط الدندنة أو العزف على الطاولة فاهم! مبروك أسعدتنا وفرحين بك دائمًا.

شارك الخبر على