الكتابة .. نضال إنساني

أكثر من ٦ سنوات فى تيار

أمين سعدي-الكتابة فيض من الشعور لا يمكن البوح به، جزء من موسيقى تملأ السماء بالحروف الوهّاجة، تلك التي تعبّر عن محاولة الولوج إلى الخلود، في قلعة من الكلمات تقدّم الخلاص للكاتب من عجزه أمام هزلية الواقع وتفاهة العالم.
علامات تحفر نفسها في الطين. رسومات على جُدران الكهوف، تشرح لنا تكوين الإنسان الأول بشكل بسيط بعيد عن التعقيد بعبقرية 7000 سنة ق.م، ولا تتعلّق بغياب اللغة أو وسائل التفاهم كما يُشاع، بل تتعلّق بحاجة الإنسان في حفظ نتاجه الفكري وميراثه الثقافي.
ما وصلنا قديماً في أول بوادر الكتابة هي الملاحم مثل "جلجامش" السومرية أقدم القصص أو الأعمال الأدبية في التاريخ، ثم الإلياذة والأوديسا الإغريقية الشعرية للأعمى هوميروس، كلاهما عالم من الخيال والأساطير، لكنهما يشكّلان عاموداً مرتكزاً على صراع الإنسان ورغبته في الخلود، وكيف أصبحت ميراثاً أدبياً للشعوب.
حاجة ملحّة تدفعنا للكتابة، تطوّرت مع الزمن إلى قصص، روايات، شعر، مدوّنات وتأمّلات في الحياة، خزين من الشعور الداخلي ملقى على شكل نصّ عميق أو سطحي كان، تصنّف بأنها خروج عن التفتّت الاجتماعي والتحرّر من القيود في التعبير عن الذات في مخاطبة عالم آخر من الجمهور، عالم مجهول يواسي عُزلة الإنسان عن محيطه.
يقول فرانز كافكا 1883 – 1924: "إنني أكتب بطريقة مختلفة عما أتكلّم، وأتكلّم بطريقة مختلفة عما أفكّر، وأفكّر بطريقة مختلفة عما يجب أن أفكّر، وهذا كله يقود إلى قلب الظلمات يومياً".
إن عزلة كافكا - على سبيل المثال – ساهمت بشكل كبير في الوصول إلى أفكار لم تكن مُتاحة، وأوقدت ناراً عظيمة في إشراقة اليقظة، ليصل إلى الإبداع الأدبي، وكـ "شكل من أشكال الصلاة"، كما يقول.
الكتابة فيض من الشعور لا يمكن البوح به، جزء من موسيقى تملأ السماء بالحروف الوهّاجة، تلك التي تعبّر عن محاولة الولوج إلى الخلود، في قلعة من الكلمات تقدّم الخلاص للكاتب من عجزه أمام هزلية الواقع وتفاهة العالم.
ومن العزلة إلى اللذّة، في تحويل النصّ إلى محور للإثارة والخيال، في الكشف عن المخفيّ وأسرار المجهول من الإنسان، تقول رويترز: "إن انتشار الأعمال الأدبية والروايات التي تطفح بالتوصيفات الجنسية، والرغبات المكبوتة، يسلّط الضوء من زاوية مختلفة على ظاهرة هوس الكتابة وتزايد كتابة الروايات المليئة بتلك القصص والعلاقات الجنسية".
قد يبيع الكاتب - أحياناً - أسرار الجسد حتى لمن لا يستحق على هيئة قصيدة أو رواية أو نصّ من نوع آخر، للتعبير عن الزخم المتراكم في داخله، أو لطلب المزيد في رؤية التجارب العميقة، في محاولة لإرضاء النزعة الذاتية والقناعة الشخصية بالدرجة الأولى، وتحت مبرّر تجميل الواقع وإمتاع القارئ، لينتهي – الكاتب - إلى السكينة، أو تحقيق حلاوة ما يكتب لتجعله في حال أفضل من الهروب من العيش مثلاً.
ومهما كانت الكتابة ناتجة عن العزلة أو اللذّة، لا يمكن أن تكون حبراً على الورق، مطويّاً بلا هدف أو سبب، لا يمكن أن تكون بهدف الايروتيكية (المثير للشهوة) فقط بعيداً عن القِيَم الأخلاقية والمجتمعية والدينية، فالكتابة عند الشاعر الفلسطيني محمود درويش تفضّل الايروسية (صوَر من الرغبة) على الايروتيكية، ومثال ذلك ما جاء في نصوصه المتحرّرة من "في حضرة الغياب":
التفاحة عضّ الشكل, بلا عقوبة على معرفة
الإجّاصة نهد مثالي التكوين لا يزيد عن راحة اليد ولا ينقص
العنب نداء السُكر: أن اعتصرني في فمك أو في الجرار
المشمش عودةُ الحنين إلى أصله شاحباً
يُعبّر درويش عن ارتباطه بالأرض، يُراقص القضية في خطاب تحريضي جمالي وكلمات تحمل معاناته في البحث عن الحرية:
اّه ياجرحي المكابر
وطني ليس حقيبة
وأنا لست مسافر
إنني العاشق... والأرض حبيبة
درويش شاعر "مُحتشم"، منح الحياة مذاقها، كتب عن المرأة في حال الحرمان والغياب، وعن صراع الخير والشر، الحب، الإيمان، اليقين، وكذلك الإثبات والنفي، فهو يحنّ إلى خبز أمّه، يحنّ إلى الحرية.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على