تأملات في وجه الشعر بعاميات أهل السودان (٢) .. بقلم جابر حسين

حوالي ٦ سنوات فى سودانايل

 

القدال يقول بعامية مبتكرة ...-------------------------------
( قلت : فناشدتك الله ما أعلمتني فيم إمتزت علي أقرانك ، وبم بززت أترابك ؟ قال : بحاجة مباحة وديباجة مبيحة . قلت : فيا واحد الندي رق لواحد القصيدة ! )...
- حسن طلب من ( زبرجدة إلي أمل دنقل ) -
لقد بات من المعلوم الآن، بشكل جلي، أنه لا توجد لغة عامية واحدة عندنا حتي نقول بمصطلح " عامية أهل السودان " . في ذلك القول الكثير من الشطط، بل، ومجافاة صريحة للواقع اللغوي في السودان . ونحن ننظر في حال عديد عامياتنا في شعرنا الذي شاع في الناس، نجدهم يقولوا ب( شاعر العامية )، أو ( شعراء العامية )، ونكاد لا ننتبه لنوضح أي عامية هي تلك التي نصنفها في الشعر أو نصف الشاعر بها ! وأنا أتأمل في شعرية القدال ولغته وتعابيره التي درج عليها منذ مبتدأ أمره وتوفره علي إبتداع الجديد فيها، تحدثت إلي الأستاذ ميرغني ديشاب، الذي هو – في تقديري – أحد أعلم الباحثين في علم اللغات واللسانيات عندنا، فكان أن أتفق معي، أنه لا توجد في السودان عامية واحدة، بل هنالك مستويات لغوية في اطار ما يمكن أن نطلق عليها – لأغراض الدرس – العاميات السودانية، ولكل وجهها ووجهتها في عاميات كل الكيانات القبلية في بلادنا. حيث تغدو العامية هنا أصواتا لغوية، ويجري عليها الإختلاف من كيان لغوي إلي آخر، كل بلسانه الخاص، أو قل بالأحري بعاميته الخاصة. لقد سرنا طويلا – دونما إنتباه – خلف ذلك المفهوم الخاطئ الذي ( قسم ) العربية العامية لدينا إلي ( عربي أمدرمان ) و ( وعربي جوبا )، ذلك خطأ تاريخي لغوي فادح علينا التخلي عنه وتجاوزه بل والإعتراف علانية بخطل ذلك التقسيم وتعسفه. فمنذ البداية، كان يفترض أن تؤخذ اللغة العامية علي كل مستوي من مستوياتها العديدة في هذا البلد الكثير التنوع، وبذلك وحده، نكون في صحيح التوصيف والتصنيف لكل عامية من تلك العاميات العديدة في تنوعها المثير! في الشعر ، كيف نري وجوهها القصيدة:
نقول إذن، أن هنالك ثلاثة شعراء، من حيث جودة الشعر ومن حيث الإستخدام البارع للسان العامي وجعله في شعرية المعني، ثم خوض غمار المغايرة وتجريب غير المجرب في قول الشعر باللسان العامي للشاعر، ذلك الذي يطلع من تربة بيئة الشاعر نفسها و ... يتجاوزها – بالأحري – يجري عليها تجاريبه الشعرية فينسج بخيوطها أردية ولبوسا ملونات في قصيدته. من يكتب بالعامية – أيا ما كانت تلك العامية – ولا يجري عليها إبتكاراته ويطور ويستحدث فيها الجديد من لغتها وصورها ومعانيها ودلالاتها، من المؤكد أنه لن يكون له شأن تاريخي في اطار شعر عامياتنا، بل سيظل في قول عاميته وهي تراوح في رؤاها وملامحها، لكنها لن تنهض أبدا بالمهمة العظيمة للشعر، أن يكون في شأن الحياة واللغة وإمتداداتها ودلالاتها في حياة إنسان بلادنا، فهنالك العديد من الشعراء يكتبون، كل بعاميته، في العاطفة والحب علي سبيل المثال، وتتكرر لديهم تلك الكتابة وذلك القول حد لا تكاد تري في قصيدة الواحد منهم إختلافا عن عموم شعره في ملامحه وسماته ولغته وموضوعاته! قلنا ثلاثة شعراء، هم: عالي المقام، صاحب الإسهام الأوفر محجوب شريف، الذي يلتقط لغته في الشعر من أفواه عامة الشعب علي قول ديشاب، وهو يعد أحد أبرع من توغل بحساسيته الشعرية العالية في لغة أهل أمدرمان مضيفا إليها مفردات وسياقات آخري فجعلها ( مفهومة ) ومتجاوبا معها علي المستوي اللغوي القومي إن جاز لنا أن نقول بذلك، فقد كان أبن بيئته التي عاش فيها حساسياته كلها، المتمرد المجرب لهاعلي وجوهها جميعا، فإنعقدت إليه الريادة التي شهد بها الجميع وهم يعايشون بزوغها فيهم كل صباح، الثاني كان حميد، الذي كرس، في قصيدته، التوليد اللغوي في اطار لغة الشايقية، فجعل يتقرب بها ويدخلها – حين تكون الممكنات الشعرية متاحة لديه – في لغة أهل أمدرمان، بذات وسائل الفكر ومراتب الوعي التي ظلت تتحرك فيها قصيدة محجوب شريف تقريبا. لهذا تري قصيدته محتفيا بها في كل كيانات السودان، يفهمونها وتصيب منهم دهشة الشعر وتجعلها في وجدانهم فتلامس منهم وعيهم وعواطفهم. أما ثالثهم، فهو شاعرنا محمد طه القدال. من المعلوم أن القدال ينحدر و ... ينتمي – بهذا القدر أو ذاك – إلي قرية ( حليوة ) في وسط الجزيرة. ولسان أهل الجزيرة هو ما تعارف علي تسميته بلسان ( أهل الوسط )، لكنه، منذ بدء أمره الشعري، تمرد علي هذا القاموس، نقول بتمرده ولا نعني بالطبع رفضه. فقد أمسك بتلك اللغة وأخرجها إلي رحاب أوسع في امتدادات الجغرافيا واللغة، سار بها – وهي بين يديه في الإضافة والتغيير – إلي حيث توجد كيانات عامية أخري فيخالطها ويلقي علي تربتها العفية قصيدته. قال لي ديشاب، إن القدال يمتلك ثروة لغوية هائلة، ويعني تلك الثروات النفيسة، شديدة اللمعان والمعاني والدلالات في العاميات العديدة لدي سائر الكيانات السودانية في تنوعها . فقد صارت عامية القدال – بعد خروجها من المستوي اللغوي لأهل الجزيرة – أقرب إلي لغة البطانة لدي الشكرية والكواهلة وغيرهم. تلك – في ظني – هي الثروة اللغوية لدي القدال التي قال بها ديشاب، وهي نفسها جوهر الثراء اللغوي لدي محجوب شريف الذي رفد بها شعر العامية في قصيدته وفي العاميات جميعها، وتلك – أيضا – أحدي وجوه إبداعه الشعري الكبير.

مأثرة القدال أيضا:

"هؤلاء الثلاثة، الذين قلنا بهم : محجوب شريف وحميد والقدال، قد حملوا عبء التغيير النوعي الكبير في عاميات أهل السودان، بأن جلعوا الكلمات تثير في المتلقي، و ... القارئ أيضا، ما تثير من إنفعال يلامس الوعي منهم فيجعلهم في حقيقة الشعر وراهنه. لم يتميز - في ظني – من بينهم سوي القدال. كان محجوب مهموما بالتأسيس للنهج الجديد الذي رأي فيه ( قرابة ) تجمعه، لا مندوحة، مع الجماهير الذي توجه إليها بكل كيانه الشعري والحياتي، وظل، في ذات الوقت، يعمل علي نسق يجعل المفردة سهلة هينة إذ تلامس قلوب الناس ووعيها. وحميد كان يشتغل علي قضية نقل عاميته الشايقية إلي جوارعاميات آخري في البلد، دون أن يبتدع جديدا في لغتها بل جعلها وجها كثير البساطة في صوره الشعرية تلامس الأفئدة بنبرة الحنان والأشواق والآمال والإصرار نفسه الذي في بيئتها، لكنه رفدها، حميد أعني، بقوة ملازمتها وإلتزامها صف الجماهير الفقيرة الكادحة وقضاياها. أما القدال، فقد حقق شيئا خصبا، فقد إبتدع وجها مغايرا للشعر، في المفردة والعبارة وعلي غير ما هو سائد ومألوف، ومثلما فعل محجوب وحميد، فقد حول الشعر إلي قضية بحيث تصبح حياة الشاعر قضية بنفس الدرجة الذي يكون فيها شعره هو الآخر قضية.
وجوه المفردة و العبارة :
تتأمل المفردة ، التي هي واحدة الكلمة، في قصيدة محجوب، فتعطيك - من تلقاء واحدها – معني وإشارة، ثم، وهي في دلالها ذاك، تأخذك إلي حيث مقصودها، بالأحري، محبوبها الذي هو معناها وجوهرها، ذلك مستوي أول، أما الثاني فهي العبارة، حين تتجاور، في تقارب رحيم، الكلمة مع الكلمة الواحدة أو تزيد، فتكون العبارة هي المعني، وهي أيضا، الدلالة كلها التي تشي بها ويمتد المعني فيأخذها إلي حيث مقصود الشاعر وإلي رؤياه التي تتنزل في وعي الناس . ذلك وما عداه، سوف نري سياقه وملامحه في ما يأتي.
h.gabir@yahoo.com

شارك الخبر على