عن الجنة والنار

over 7 years in التحرير

أحيانا أتخيل الجنة حسابيا وجغرافيا. أحسب عدد الأقوام والجماعات والشعوب التى ستعيش فيها، منذ بداية حضور الإنسان على الأرض، وحتى نهايتها. منها من عاش حلم دخول الجنة، وعرفها جيدا، وعرف جغرافيتها، وخريطة متعتها، وسبلها، وطرق الوصول إليها، وعرف معها أنه سيموت، ويبعث. ومنها، شعوب، وأقوام، وجماعات؛ من لم تعش "الجنة" في خيالها، أو في أى كتاب قرأته، ولم تعرف تضاريسها النفسية، وظلت هذه الرقعة الجغرافية الأخروية محجوبة عنها، ربما استشعرتها وشمت ريحها من بعيد، ولكن لم توقن بوجودها، فلم تكن الجنة لها مكان جغرافي أو نفسي، أو ديني، توجد به ويمكن الاستدلال عليه في ثقافتها. وعاشت هذه الشعوب والأقوام والجماعات، وأمامها الحياة كحائط سد، لا يوجد شيء بعده. هؤلاء هم الأكثر عدمية، الذين ماتوا وهم لا يرون امتدادا لهذه الحياة، وربما أوجدوا جنتهم في رقعة جغرافية داخل حياتهم نفسها، أو في كهف داخل نفوسهم، يأوون إليه كلما شعروا بالخوف.

داخل الجنة ستعيش كل البشرية، الجزء الصالح منها. لذا سيكون من السهل أن نرى الأوائل والسلف والأجداد وأجداد الأجداد، هناك يمكن أن أقابل جد جد جد جدي، لأسأله عن هذه الموهبة التى أخطأت عدة أجيال وجاءت لى، وعندها سأعرف سبب هذا الأرق المبكر أو السعادة المبكرة التى كنت أنعم بهما وبدون أن أعرف مصدرهما. وربما رأينا، جسب منزلتنا فيها، آدم عليه السلام، أبونا الذى جئنا منه، وحمَّلنا فرح وجودنا، وأيضا حمَّلنا وزر خطيئته بالخروج منها. فهو المسئول الأول عن هذه الرحلة الطويلة التى قطعناها من بعده، لنعود إليها مرة أخرى.

وأيضا سنرى الأواخر، الذين لم نلحقهم، وسنرى تأثير أفعالنا عليهم، وحجم الذي سببناه لهم من ألم أو فرح، أو حيرة، أو ارتباك، أو ندم، وهل عشنا بداخلهم، بعد أن تركناهم، ومتنا وماتت معنا أفكارنا وأحلامنا مهما كانت عظيمة؟

هناك مكان لا نهائي سيتسع لكل من مروا على الأرض، كل منا سيكون نقطة على خط طويل طويل، يرى أوله وآخره. وبدون حيرة، يمكن أن نسير على هذا الخط للخلف أو للأمام أو بالعرض لنتقاطع مع خيوط أخرى لشعوب أخرى وأقوام أخرى، وكل تقاطع يؤدي بنا لتقاطع جديد، وربما ننسى الهدف الذى تحركنا منه في البداية، وندخل في هذه الشبكة النهائية من التقاطعات، النقاط والخطوط، والتي ربما تكفي الأبدية أو الخلود. ربما سنقضي أعمارنا الممتدة وأزماننا الممتدة، هناك، في تصفح الوجوه على شبكة التقاطعات اللا نهائية، التى لا تنفد كأننا نقرأ ونراجع تاريخ البشرية في مستقرها الأخير، بعد أن بعثت.

هناك لن توجد أسئلة، فالزمن زمن إجابات عن مليارات الأسئلة التى طرحها البشر منذ ولادتهم حتى مماتهم، فاجتماع الماضي والمستقبل وبالطبع الحاضر، هو الإجابة عن كل شيء. اجتماع الأزمنة هذا، سيمكننا من أن نرى البدايات لأي شيء، الأخطاء، والعيوب، البدايات الناجحة، والبدايات المخفقة التى ترتب عليها الكثير من الأزمات.

هناك، البشرية كلها ستتحول لعائلة واحدة، وسنكتشف الجذر الذى انفرط وحمل معه الاختلاف الأسبق على أى وحدة، أو هوية، كما يقول الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، والهوية الأسبق على أى اختلاف.

بجانب الوفرة والإشباع اللذين ستنعم بهما البشرية، الجزء الصالح منها، مقابل الاحتياج والحرمان اللذين كانت تعاني منهما في حياتها الأولى؛ ستحل هذه البشرية كل شيفرات الحرمان والنقصان، داخل النفس وداخل اللغة وداخل الحضارة، كما حاول تفسيرها فيما بعد الفلاسفة: ابن خلدون وفرويد ولاكان.

ربما تبدأ البشرية حياتها هناك كصفحة جديدة، بدون الماضي الأرضي، فقد جاءت هنا بعد أن صفَّت حسابها مع هذا الماضي، وربما تتحول الأرض بمن عليها وبذكرياتها إلى نجمة مضيئة بعيدة تراها وتحن إليها. ربما تتحول الأرض إلى مصدر للحنين لأنها ستكون جزءا من هذا الماضي.

ربما ستظل رائحة الأرض، وورابطها، قائمة، رغم البداية الجديدة؛ في جمع شمل العائلات والأحبة ولَأْم الأشتات، والأزواج، واليتامى. هناك تلتئم العائلات التي فرقها الموت، أو الغياب أو النسيان. ليس هناك نسيان، ولكن ربما ذوبان طبيعي للذكريات.

الأرض وما فيها، كانت ناقصة، والجنة هي مكان الاكتمال وتعويض هذا النقص الاضطراري الذى تحملناه على الأرض بنفس صافية وبإيمان بأنه نقص مؤقت وسرعان ما سيزول عند موتنا وبعثنا. 

ستعيش هذه "الأنا" التى عشت داخلها على الأرض، ولكن بدون عذابات ونقصان، وربما بدون حجم الخيال الذي كان يعيش بداخلها على الأرض، والذي كان سببا في التخلص  ومداواة الكثير من عذابات النقصان. الخيال كان جنتي على الأرض.

كنا نعيش، على الأرض، وهناك مجهول ينتظرنا، وتعاملنا مع هذا المجهول كل بطريقته، وخلَّف فينا هذا المجهول فراغا وجرحا بداخلنا. أما الآن في الجنة، فنحن نعيش في المستقبل، الذي كان مجهولا ويأتي دائما من ناحيته الخوف. هنا ليس هناك مجهول. فقد أمسكنا المستقبل من قرنيه وإلى الأبد.

الجنة هي المستقبل الدائم. نهاية قوس حياتنا، ولن يكون هناك فرصة لجرح جديد، أو حتى لتساؤل، أو لنسيان، إنه زمن إجابات دائمة.

ربما اندهاشنا سيغطي على متعتنا، مهما كانت متعددة. أو أن متعتنا التي سنحصِّلها من  الاندهاش ستلهينا عن متع أخرى. فالوفرة، في كل شيء، سيتضاءل حجمها وقوة تأثيرها، أمام قوة الاندهاش وسهولة الإجابات وسيولتها. أخيرا نفك لغز حياتنا، ونلاقي الماضي والمستقبل معًا، ونملأ هذا الفراغ المجهول في نفوسنا، فهذه هي لحظة النهاية الحقيقية، الإجابة، التي عجز "أوديب" عن مواجهتها في الأسطورة اليونانية، أن تختصر حياتك كلها إلى إجابة.

ربما سيختفي اللا شعور، الذي كان جزءًا من المجهول وغياب المستقبل، والخشية منهما، بجانب الجزء الوراثي فيه الآتي من ميراث الجماعة. هناك الجماعة كلها حاضرة، ومكشوفة، والمستقبل نفسه حاضر، ومكشوف، والماضي مكشوف. فالجماعة بلا مخزن زمني، لتكوين الشعور الجمعي. ربما تتحول البشرية إلى أفراد بلا ذاكرة، فاقدين لثخانتنا، ولبعدنا الثالث، كما إنسان الفيلسوف الأمريكي "هربرت ماركيوز" الحديث.

لن يكون هناك مكبوت، أو سعي للملكية، فكل شيء متوفر، وبسخاء. ولا توجد ملكية فلا يوجد شيء غير متنازع عليه، فكل شيء متوفر ويكفي الجميع ويفيض. لا نقصان في الحاجات أو الرغبات الأساسية، كما في الحياة، فالرغبة التى نمت على الأرض وتضخمت بسبب تضخم حجم المجهول والأسئلة والغموض الذي يحيط بها؛ ستختفي هناك، وتتحول إلى عضو غير مؤرق، لا يبحث عن الإشباع، وربما عضو زائد مثل الإصبع السادس، أو الفقرة الزائدة التى لم يعد لها وظيفة.

لا أعرف هل سيوجد الحب أم لا، كما كان موجودا على الأرض، كغاية وهدف وسقف وملاذ؟ على الأرض كان نتاجا لاحتياج للآخر، لجسده وروحه ولخوفه ولفراغ داخلي لا يمتلئ إلا به، لمجهول يدفعنا للتحقق، لرغبة ملحة فى الاكتمال عبر هذا الآخر. أما هناك، فربما الاكتمال لم يعد مشكلة، فنحن هناك مكتملون لأننا بدون آخر، مكتملون بذواتنا التي فارقت الموت، ربما الحب يتوجه فقط لله، فهو الآخر الذي تقمص الكثير من الوجوه والأجساد والأرواح التي أحببناها.

أما في النار فلن يكون فيها إلا المحو، لا سلاسل عائلية، أو تجمعات، بل "فردية" خالصة، لا ماضى لها سوى الذنب، ولا وقت للتذكر أو للمفاجآت، أو حتى الاندهاش والتساؤل. النار نفسها، كمادة ومجاز، ستحرق كل أزمنة الذاكرة، ستطهر كل الأسئلة من ذنوبها. كل من سيخرج منها سيخرج أعزل فاقدا هويته، ولكل قرابة أو نسب أو علاقة سابقة بالجماعة البشرية، ليبدأ البحث من جديد عن أبيه، مثل بطل رواية "الطريق" لنجيب محفوظ.

Share it on