غادة والأمن القومي

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

إلى منزلها في بلدة الرام بالضفة الغربية عادت الطفلة غادة إبراهيم بعد أن قضت أسبوعًا كاملًا في قطاع غزة، الذي أبعدتها إليه قوات الاحتلال الإسرائيلي. الفتاة التي لم تتجاوز الخامسة عشرة تعاني من مشكلات صحية وصعوبات في النطق لم تمنع قوات الاحتلال من اعتقالها ليومين قبل ترحيلها دون علم أهلها أو محاميها.

حين وصلت الصبية الجزء الآخر الذي لم تره قبل ذلك من وطنها عند معبر إيريز، فوجئ العاملون في الحقل الحقوقي بحالتها، وبدأوا في البحث عمن يستضيفها في انتظار حل الأمر، من خلال التواصل مع المرجعيات القادرة على الضغط على سلطات الاحتلال لتتراجع عن قرار بهذه الخطورة والتعسف.

حالات الترحيل أصبحت كثيرة منذ أطلقت إسرائيل يدها ومارست أقصى حد من صنوف الإجرام المتنوعة من استيطان وتهويد ومصادرات للأراضي والمنازل واعتقالات للأطفال والنساء والمسنين، منذ وصل ترامب إلى البيت الأبيض قبل عام، لكن امتداد هذا الجنون ليشمل إبعاد طفلة في هذه السن عن عائلتها لتنضم لنحو خمسين فلسطينيًّا أبعدوا عن أرضهم خلال أقل من عام، دليل جديد على ما وصلت إليه الغطرسة وعدم الاكثراث لأي ردة فعل عربية أو إسلامية أو دولية، وباطمئنان أن أمريكا في عصرها الجديد جاهزة للدفاع عن ممارسات من العصور الوسطى.

احتمالات بقائها مبعدة كانت مرتفعة للغاية، والعودة إلى تنفيذ ما فشل بسبب غضب داخل دولة الاحتلال نفسها واردة أيضًا، وربما هذا ما دفع عائلتها إلى التوقف عن الحديث إلى وسائل الإعلام بعد أن عادت إلى منزلها أخيرًا، خشية أن يؤدي حكي ما جرى إلى غضب الاحتلال ومعاقبتهم مرة أخرى.

رغم هذا كله غابت قصتها عن وسائل الإعلام المصرية. في أزمان أخرى كان لجريمة غير مسبوقة كهذه أن تنال اهتمامًا وحديثًا يناسب فداحتها، لكن فلسطين صارت بالنسبة لصحفنا وقنواتنا تتلخص في العبارات المعلبة عن تقدير المسئولين في السلطة الفلسطينية  للدور المصري الذي لا غنى عنه، أو الموقف التاريخي من القضية وحقوق الشعب. بالطبع دون حديث عما ينال هذه الحقوق من انتهاكات تتجاوز إجرام الماضي.

وإن نالت واقعة ما اهتمام إعلامنا فستكون ضمن موجة اهتمام كبيرة كما حدث مع عهد التميمي، التي ربما اهتم إعلام الاحتلال بقصتها لفترة أطول مما فعلنا، أو كما جرى من تناول الغضب الشعبي من قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للاحتلال ونقل سفارة بلاده إليها، وسرعان ما اختفت القصة.

لم تعد القضية محور اهتمام شعبي، يقول الكثيرون تبريرًا لتقليص مساحة تلك الأخبار فيما ينشرون، رغم أن هذه نتيجة لما يفعلونه وليس السبب، وكأنهم في المقابل يهتمون بشأن محلي غير المشروعات القومية العملاقة والقرارات الاقتصادية الحكيمة وخدمات العلاقات العامة للوزراء والمحافظين.

بعد سنوات من التشكيك المتعمد، والاتهامات الساذجة ببيع الأرض، والمصحوبة بالدعوة إلى الاهتمام بأمورنا الخاصة قبل الالتفات إلى شئون أخرى قد تجلب علينا حروبًا جديدة، تحول الاهتمام بالقضية الفلسطينية إلى بند إخباري كبركان في دولة آسيوية أو تنصيب رئيس جديد في دولة إفريقية تأتي أخباره من الوكالات، ولا مراسلين لقنوات مصرية يقدمون لنا تغطية مختلفة لشأنٍ بهذه الأهمية. لن نتحدث عن تناول أخبار سوريا التي تحولت إلى حرب على الإرهاب فقط، ولا حديث عما ينال المدنيين من قصف حكومي أو روسي، أو هجوم بالغاز ضمن مسيرة إفناء دولة شقيقة للإبقاء على حكم رئيس وضعه والده خليفة له رغم أنف شعبه.

حتى منطق المبررين النفعي لا نتبع ما يقتضيه، كيف تؤمن حدودك وتراعي مصالح دولتك وأنت تجهل ما يجري في أرض ملاصقة تباهي من آن لآخر أنها كانت جزءًا منك يومًا ما، سنتوقف عن حديث الأشقاء أو القضية وطنية أو الاحتلال باعتراف المؤسسات الدولية؟ ألا تتسع دائرة "ضرورات الأمن القومي" التي تظهر مع كل تجاوز لقانون أو حق دستوري بإجراء استثنائي لتشمل صميم متطلباتها؟

ضمن الضغوط التي تمارسها إدارة ترامب على الفلسطينيين للقبول بالصفقة التي أعلن المبعوث الأمريكي قرب إتمامها، حتى إن رفضها الفلسطينيون، جاء خفض المخصصات المالية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" ليزيد إلى مأساة اليمنيين والسوريين والليبيين عمقًا أكبر لمأساة أقدم، لكن لا يبدو أن أحدًا في مصر يهتم بتلك المعاناة على بعد كيلومترات منا.

ظهر الأمر كخبر عادي لا يثير القلق، ولا يستدعي الفزع الذي نراه مع حوادث عادية، رغم أن تقارير المنظمات الإغاثية خرجت محذرة من آثار كارثية للحصار المستمر، يزيدها هذا الإجراء الذي يضاعف معاناة مليون فلسطيني تقدم لهم "أونروا" مساعدات غذائية وتعليمية وصحية، بعد أن أقدمت إدارة ترامب على تجميد نحو ستين مليون دولار للضغط على السلطة للتنازل والقبول بالأمر الواقع والعودة إلى المفاوضات على ما تبقى.

انطلقت حملات التضامن وطلبات التبرعات لأونروا، بشعارات ترفض مقايضة الكرامة بالمال والمساعدات، لكن أيًّا من ذلك لم يصل إلينا، ليتوارى اسم مصر وتظهر اليابان وهولندا وفنلندا والسويد والنرويج. ثم نسأل بعد سنوات من المشاركة في الحصار وتجاهل المعاناة لماذا يغيب دورنا؟ ولماذا تتغير المشاعر تجاهنا؟ ويختفي تأثيرنا ونكتفي بمعايرة من يسألنا عن أسباب ذلك بمتقطفات من أفعال الماضي؟

لكن هذا التغييب والتجاهل وصل ذروته خلال الأيام الأخيرة، حين تصدرت نذر حرب وشيكة يشنها الاحتلال على أرض القطاع الصفحات الأولى من صحف عربية وعالمية، بينما لم يجد خبر بهذه الخطورة مساحةً له في صفحاتنا وساعات برامجنا المسائية إلى جوار الإنجاز الكبير بتوفير دجاج برازيلي بأسعار مخفضة للمواطنين.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على