نادية عبد الحليم تكتب «مى زيادة» أيقونة الحب المستحيل!

حوالي ٦ سنوات فى التحرير

تسللت إلى عقولهم.. فسيطرت على مشاعرهم، فكان ذلك الحب الطاغى لها فى قلوبهم.. تلك كانت مى زيادة التي أحبها كبار المفكرين والأدباء والمثقفين والسياسيين فى مصر والعالم العربى، حتى أصبحت أيقونة للحب المستحيل، أو الحب بعيد المنال، ليس فقط من حيث بعد المسافات مثلما أحبها جبران خليل جبران، لكنه كان أيضا حبا بعيدا فى كينونته! فالعاشق هنا يعرف جيدا أنه يعيش فى "منفى وهى بمنفى" كما وصف نزار قبانى الحب المستحيل فى قصيدته الشهيرة التى تحمل الاسم نفسه "وبينى وبينك ريح وغيم وبرق وثلج ونار" فكل ذلك يقف بينه وبينها ورغم ذلك هو متيم بها! 

وهكذا كانت مى أيضا التى تمر هذه الأيام ذكرى ميلادها -فبراير 1886- ولا تزال رمزا لذلك الحب، إلى الحد الذى وصفه البعض بأنه كان عشقا تتملكه النزعة الروحية، فالرجال كانوا يعشقونها حتى لو صارت "روحًا بلا جسد".

لكن تبقى الأسئلة تطرح نفسها بقوة على هذه الظاهرة العاطفية المتفردة، كيف استحوذت هذه الأديبة على مشاعر الرجال؟ وكيف جعلتهم يهيمون بها عشقا؟! هل هناك بالفعل امرأة يكون لها جاذبية خاصة تمكنها من التسلل خلسة إلى القلوب، باختلاف ثقافة وطبائع ومعتقدات أصحاب هذه القلوب، وكأنهم يدورون حول الشمس يحترقون عند الاقتراب منها ويتوهون فى فضاء آلام الفراق عند البعد عنها؟! وماذا يكون إحساس المرأة حين تكون محورا لحبهم؟! ربما تحمل قصة حب مى زيادة الإجابة عن بعض هذه التساؤلات!

كانت مي تقيم صالونها الأدبي في منزلها حتى الثلاثينيات من القرن الماضي. وكان يتردد عليه كبار المفكرين والشعراء والأدباء ورجال السياسة والدين، أمثال عباس العقاد وطه حسين وأحمد لطفي السيد وإسماعيل صبري والشيخ مصطفى عبد الرازق وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران وولي الدين يكن، والدكتور منصور فهمي وغيرهم. ومعظم هؤلاء أحبوها!، فهل كان ذلك لرجاحة عقلها وثقافتها وموهبتها الأدبية فقط أم لأسباب أخرى أيضا؟!

لقد عرف تاريخ الصالونات الثقافية أسماء نسائية أخرى تميزت هى أيضا بهذه الصفات لكن لم ينل ما نالته مى زيادة من حب الرجال الذين كانوا يجدون فى صالونها فرصة جيدة لإرضاء مشاعرهم تجاهها، حتى لو بالنظر إليها والحصول على قدر من التواصل معها، تحت مسمى "الصداقة الأدبية"! إذن فماذا كان وراء حبهم لها؟! 

ربما يمكن أن نصل إلى بعض الأسباب من خلال وصفهم لها، ومن ذلك ما قاله عنها أحمد حسن الزيات: "تختصر للجليس سعادة العمر كله في لفتة أو لمحة أو ابتسامة". ووصف أحمد شوقي شعوره نحوها قائلا: "إذا نطقت صبا عقلي إليها.. وإن بسمت إليَّ صبا جناني".

وحين دعا حافظ إبراهيم القاضي عبد العزيز فهمي إلى الكلام، أشار فهمى إلى مي وقال: "النظر هنا خير من الكلام ومن الإصغاء" وفى بيت شعر غاية فى الصدق يصرح الشاعر الجريء ولي الدين يكن بحبه لمي قائلا "أعلمت الهوى الذي أخفيه؟ أي سر يا مي لم تعلميه؟" ويغازلها ذات يوم شيخ الشعراء إسماعيل صبري قائلا: "وأستَغفر الله من بُرهَةٍ منَ العُمرِ لم تَلقَني فيكِ صَبّا". وهى أيضا التى قال جبران واصفا كلمة لها جاءته فى رسالة منها "الكلمة الحلوة التي جاءتني منك كانت أحب لديَّ وأثمن عندي من كل ما يستطيع الناس جميعهم أن يفعلوا أمامي". أما عند وفاتها فقد لخص العقاد حبه الجارف لها بجملة "كل هذا في التراب آه من هذا التراب".

إذن كانت مى تتمتع بذلك المزج الساحر بين رجاحة العقل ودفء القلب، كما كانت تتسم بقدر رائع من قوة الشخصية والجرأة، التى جعلتها قادرة على إدارة صالون يأتى إليه رموز الثقافة والفن فى مصر من ناحية، والدلال والخجل والنعومة من ناحية أخرى، إلى الحد الذى جعلها تكتب يوما إلى حبيبها جبران الذى لم يرها أو تراه تلك الكلمات التى تقطر خجلا ورقة وهى تعترف له بحبها مستنكرة اعترافها "الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به، لأنك لو كنت الآن حاضرًا بالجسد لهربتُ خجلًا بعد هذا الكلام، ولاختفيتُ زمنًا طويلًا، فما أدعك تراني إلَّا بعد أن تنسى. حتى الكتابة ألوم نفسي عليها، لأني بها حرة كل هذه الحرية"، كما كانت تتمتع هذه الكاتبة الملهمة أيضا بتلك المسحة الأنثوية الطاغية القادرة على تملك مشاعر الرجل حين تجيد إثارة غيرته، فتلك المرأة التى بدت بينهم متّزنة وملتزمة، فى صالونها ها هى تعترف للعقاد بسعادتها بغيرته عليها حين لاحظت ذلك، حيث كتبت له تقول بنعومة ودلال فى رسالة له عام 1925: 

"لا تحسب أنني أتهمك بالغيرة من جبران، فإنه في نيويورك لم يرني، ولعله لن يراني، كما أني لم أره إلَّا في تلك الصور التي تنشرها الصحف. ولكن طبيعة الأنثى يلذ لها أن يتغاير فيها الرجال وتشعر بالازدهاء حين تراهم يتنافسون عليها! أليس كذلك؟! معذرة، فقد أردت أن أحتفي بهذه الغيرة، لا لأضايقك، ولكن لأزداد شعورا بأن لي مكانة في نفسك، أهنئ بها نفسي، وأمتّع بها وجداني".

ولعل فى وصف أنطون الجميل لها أيضا ما يكشف المزيد عن المزج المتفرد بين صفات جميلة فى شخصيتها فقد قال عنها يوما "اسم مي أصبح في هذا الجيل يرادف حسن البيان وفصاحة اللسان ونبوغ العقل و... كبر القلب"، وهو السبب نفسه الذى لم يفلح معه الشيخ مصطفى عبد الرازق أن ينجو من حبها! فعندما سألت أحد أحفاده يوما عن حقيقة هذا الحب والثلاث الرسائل الشهيرة التى أرسلها إليها، لم ينف الحفيد ولم يقطع بذلك! 

ذلك أن للشيخ عبد الرازق أيضا رسائل عبر فيها عن حبه لها، ومن ذلك ما قاله فى واحدة من هذه الرسائل "وإني أحب باريس، إن فيها شبابي وأملي، ومع ذلك فإني أتعجل العودة إلى القاهرة، يظهر أن في القاهرة ما هو أحب إليَّ من الشباب والأمل"!
لكن هل عرفت "مى زيادة" الحب الحقيقى فى حياتها وسط كل هذه المشاعر الجارفة تجاهها؟ هل بالفعل أحبت "جبران خليل جبران" الذى لم تره يوما؟! وماذا عن العقاد؟ هل أحبته بصدق؟ وهل أحبت الشاعر "ولى الدين يكن" كما تردد؟! 
فهؤلاء هم الرجال الثلاثة الذين قيل إنها أحبتهم فى حياتها، لكن هل كانت هذه هى الحقيقة، أم أنها أحبت فقط أن تكون ملهمة لهم، وملهمين لها مثلهم مثل الآخرين؟!

بالتأكيد لا أحد يمكنه أن يقطع بإجابة عن هذه الأسئلة، لكن تبقى حقيقة واحدة أنها كانت ملهمة للكثيرين وأيقونة للحب المستحيل، وحتى ذكرى ميلادها ترتبط بعيد الحب!

شارك الخبر على