الرابط الميثاقيّ هو السبيل لللارتقاء من الشارع إلى الحلّ (بقلم جورج عبيد)

حوالي ٦ سنوات فى تيار

جورج عبيد -
كان الإمام المغيّب موسى الصدر قامة من فكر وهامة من نور، حمل في يد مصحفًا وفي يد أخرى إنجيلاً. في اللحظات الذروة القاسية كان يمطر سلامًا وخيرًا. أتذكّره كما يتذكّره كثيرون لحظة دخوله كنيسة الآباء الكبوشيين في بيروت، وقف أمام مائدتها وخلفه الصليب وكأنه يلامس بالطهر والبشر عمامته السوداء، تكلّم في المحبة والعيش والإخاء، وأوصى الجميع بعدم الاندراج في الأزمات المتراكمة في البلد وعليه، وأكّد على العيش الواحد بين المسيحيين والمسلمين. حين اندلعت الحرب في لبنان وعليه وقد أسماها الراحل غسان تويني، حروب من أجل الآخرين des gueres pour les autres وهو أصدق توصيف للحرب، اعتصم الإمام موسى الصدر في الكليّة العامليّة في بيروت، وشاركه في الاعتصام الرئيس الراحل شارل حلو والمطران جورج خضر والرئيس حسين الحسيني، والوزير ميشال إده، وكثيرون...سطع موقف وطنيّ واحد بوجه حروب تمّ التخطيط لها بعناية فائقة، من قبل الدول اللاعبة في الشرق الأوسط، تداخل فيها الأميركي والسوريّ والفلسطينيّ والعربيّ، بدأت بين المسيحيين والفلسطينيين ثمّ بدأت عملية التراكم السلبيّ وغدا لبنان مسرحًا دمويًّا لعنف متجدّد طورا بين الحيّ المسيحيّ والحيّ الإسلاميّ، وطورًا بين المسيحيين والفلسطينيين أو المسيحيين والسوريين، أو بين المسيحيين أنفسهم وبين المسلمين أنفسهم.... لم تنفع بعدها الوساطات ولا المؤتمرات حتى نضجت تسوية الطائف لتطوي مرحلة من العنف وتفتح صفحة من وصاية سوريّة سعوديّة على لبنان، ومن بعد سنة 2003 أي تاريخ الدخول الأميركيّ على العراق بدأنا مرحلة جديدة من الأزمة اللبنانيّة. واجه موسى الصدر الحروب إلى أن اختطف فغاب عنّا وجه راق مشرق مبشّر بالوحدة الوطنيّة إلى جانب رجال كبار تعاطوا مع بعضهم بفكر نيّر واحترام متبادل.مسألة النظام السياسيّ اللبنانيّ، أنّه ولاّدة أزمات، ولكنّه ليس ولاّدة تسويات بل هو مولودها. معظم التسويات كانت تملى على اللبنانيين فيتفاعلون معها أو بها، ويطيعون بل يزايدون بالطاعة ما أملي ويملى عليهم وتلك طامة تجعل من البنية السياسية رجراجة لأنها بعد حقبات زمنية ستصاب بالندوب وتمتلئ بالقروح وتمنى بالعطب، فعن أي نظام إذًا نتكلّم؟ هل هو نظام يجيء من تلاقي خصوصياتنا باستبعاد للأطر السلبية وتحطيم جبال الشكوك والمخاوف من ثنائيات تنشأ على حساب طوائف أخرى، وكأننا لم نتعلّم من التجارب العبثيّة المدمرّة للبلد بشعبه ومؤسساته واقتصاده وماليته وأمنه... ما من أحد تعلّم من التجارب السابقة وكأننا نستعذب الحروب ونستطيبها من أجل انتفاخ بعضنا وترسيخ الكبرياء الفارغ وتعميم المصالح الخاصّة ولو على حساب جيوب المواطنين وكراماتهم... الشكوك والمخاوف أرحام مضادّة لبعضها تستولد الحروب وتعممها، والسؤال المطروح على الضمير اللبنانيّ الجمعيّ، ماذا كنّا جنينا لو أريقت الدماء في الحدث أو قبل ذلك أمام مبنيى مركزية التيار في سن الفيل ماذا كنّا جنينا؟ كلّ الطائفيات السياسيّة دمّرت لبنان، ودمرّت بعضها بسبب تورمها الأعمى. طائفيّة سياسيّة تعزل أخرى، أو تتحالف مع واحدة أخرى بوجه طائفيّة مقابلة. لقد تعنونت معركة رئاسة الجمهورية فيما سلف ومعركة قانون الانتخابات بعنوان واحد سقوط الطائفيّات السياسيّة النافرة والمتوحّشة وانبلاج فلسفة ميثاقية جامعة. وللأمانة التاريخيّة، فإن التيار الوطنيّ الحرّ مع مؤسسه العماد ميشال عون ومن خلال رئيسه الحالي جبران باسيل، هو من تبنّى الفلسفة الميثاقيّة من مطلقها الأوّل ميشال شيحا ومجسدَيها بشارة الخوري ورياض الصلح، وتبنّى في الوقت عينه فكرة تلاقي من يمثّلون الوجدانات الطائفيّة في قالب وطنيّ واحد، وعمل بدوره على تجسيد تلك الرؤية برذل ورفض من استيلاد طائفية في كنف طائفة أخرى، واستئثار طائفة بأخرى، ولفظ من قاموسه التعاطي على مبدأ الطائفية المتلاشية وطالب بترسيخ طائفيّة متوازنة ومتلاقية ومفتحة وغير مغلقة ولا منعزلة ولا عازلة. رنا التيار الوطنيّ الحرّ نحو التوازن، وقد جاراه جزب الله في الرؤية عينها ودافع عنها دفاعًا مستميتًا فظهر الاشتراك في هذه الرؤية تنفيذًا لوصية الإمام موسى الصدر وتحقيقًا لفكره. في الوقت عينه، قرّر التيار الوطنيّ الحرّ التوسّع في مجموعة تفاهمات على قاعدة الفلسفة الميثاقيّة عينها، فأنجز تفاهمًا موضوعيًّا مع تيار المستقبل، وهو على طريق إنجاز تفاهم آخر مع الحزب التقدميّ الاشتراكيّ، من دون أن يغفل ضرورة تصحيح العلاقة مع حركة أمل وتقييمها وتصويبها من بعد إصابتها بجراح مثحنة بسبب العلاقة المترديّة والمتأزّمة بين الرئيس نبيه برّي والعماد ميشال عون قبل الرئاسة وخلالها. ثمّة ودّ مفقود بين الرجلين لم يستطع أحد لجمه ولا لحمه، على الرغم من محاولات حثيثة بذلت. فازداد التأزم على أكثر من صعيد، بدءًا من تحريك المياومين وصولاً إلى مجموعة تمديدات لقائد الجيش السابق جان قهوجي، وتبنّي الرئيس برّي ترشيح سليمان فرنجيّة بالتحالف مع وليد جنبلاط وفؤاد السنيورة وسعد الحريري، بوجه تبنّي حزب الله لترشيح العماد عون لرئاسة الجمهورية. لعلّ الرئيس برّي قد خشي من متانة العماد عون وجديّته، وخشي أكثر من الخروج عن مبدأ الاستيلاد الذي هيمن على المسيحيين، وحرمهم من الانوجاد في الدولة ومؤسساتها، وربما خشي أكثر من تطوبع وزير المالية وتهميشه... هذه أمور ومسائل للرئيس برّي أن يوضحها، في حين أنّ هذه الرؤية غير واردة عند التيار الوطنيّ الحر ولا عند المكون المسيحيّ. فالتحالف الاسترانيجيّ بين التيار الوطنيّ الحرّ وحزب الله، كان بإمكانه أن يتوسّع نحو حركة أمل لو شاء الرئيس برّي توسعه. لدرجة أن الحاج حسين خليل وصف العلاقة مع التيار والعماد ميشال عون بعلاقة الأعضاء في الجسد الواحد.لم يرنُ التيار الوطني الحر سوى للتكامل مع الجميع. لقد قال جبران باسيل الذي يرمى بالسهام بأنه شيعيّ أكثر من الشيعة حين يتمّ المسّ بحقوق الطائفة الشيعيّة وسنيّ أكثر من السنّة ودرزيّ أكثر من الدروز حين تنتهك حقوق الشيعة والسنّة. لا يعني هذا بأنّ الكلام المقول حقّ، لكنّ تسريبه وتفريغه بهذه الفجاجة انطلقا من وظيفة وقصد. لقد تقصّد من فرّغه ووظفه أخذ البلد نحو فتنة خطيرة بين المسيحيين والشيعة لإضعاف موقع حزب الله في لبنان وسوريا وفي الساحات المشرقيّة بعد فشل الوظيفة من خطة وضع الرئيس الحريري في الإقامة الجبريّة في السعوديّة وإرغامه على الاستقالة. من حقّ الرئيس برّي أن يغضب من كلام، ولكن ما كان القصد من نزول الشباب بهذه الكثافة والحماوة إلى الشارع الذي لولا حزب الله والسيد ألمين العام وحكمة فخامة الرئيس ودور اللواء عباس إبراهيم لكنّا وقعنا في جبّ أتّون متفجر ومتّقد؟في النهاية يفترض على لقاء الثلاثاء المنتظر أن تتمّ المكاشفة الصريحة وإزالة العوامل والشوائب بروح الرضى المتبادل بين رئيس الجمهورية ورئيس المجلس ورئيس الحكومة. تقول المعلومات بأنّه إن لم يتمّ على طرائق جديدة في العلاقة فإنّ البلد متجّه نحو حقبة خطيرة جدًّا في ظلّ التهديد الإسرائيليّ وفي ظلّ عدم الوصول في سوريا نحو التسوية النهائيّة. لبنان محكوم بالتوافق ولكنّه أيضًا محكوم بترسيخ الفلسفة الميثاقيّة وفقًا للقواعد الدستوريّة والشرعيّة التي تحكم علاقة السلطات ببعضها البعض بلا اختزال أو تشوّش أو اختلاط. ودولة الرئيس نبيه برّي يبقى قامة محترمة والرجاء أن تزول الحجب على الأرض وتنقشع الغيوم في الفضاء ليتمّ اللقاء بالصفاء الكامل. صفاء العقل والقلب المتلاحمين في محبة هذا الوطن العظيم.

شارك الخبر على