سيد حجاب مآلات التمرد ومناوءة الرؤى (١ ٢)

حوالي ٦ سنوات فى التحرير

عاود سيد حجاب، مرات، فى العقد الأخير، حكى لحظات فارقة فى حياته، وبعد رحيله أضاء أشقاؤه بعضها، فى صيف 1940 رأت أمه فى المنام؛ وهى حامل به، السيد البدوى، الصوفى الكبير، فاعتبرت تلك إشارة، فأسموه سيد، ووسم ذلك جانبا من طفولته الباكرة؛ فكان شديد التدين والتعبد، ملازما للمسجد حتى ناداه الجميع "الشيخ سيد"، ثم التحق بـ"أشبال الدعاة" التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، فيما بعد أسر للشخص الذى جنده فى التنظيم اليسارى المعارض؛ الذى يصفه بأنه "يسار اليسار": "يكون فى علمك لا أريد أن يناقشنى أحد فى مسألة تدينى"، فأجابه: "لك هذا لكنك ستقابل ملحدين لا تناقشهم فى إلحادهم فلا يناقشونك فى إيمانك"، بين "أشبال الإخوان" و"يسار اليسار" مر لفترة قصيرة بحزب مصر الفتاة، عرف أبوه أن غواية الشعر تلبسته وهو ينهى مرحلة الطفولة فقال له: "أولًا الحمد لله يا شيخ سيد ربنا أنعم عليك بسليقة شعرية سليمة ويجب أن تحمده عليها، ثانيًا يجب صقلها بالدراسة"، ودرسَّ له العروض الشعرى على طريقة ترديد الأزهريين مع قهوة العصارى حتى حفظها كلها مابين سن 11 و14 سنة.

يخبرنا شقيقه، عاطف، الضابط المتقاعد: نحن أسرة من الشعراء، كان أبى شاعرا، وكذلك أخى شوقى -الشاعر والمسرحى والمترجم- ثقافة والدنا أثرت علينا جميعا، نحن 9 أشقياء: 5 ذكور و4 إناث، أكبرنا المهندس صلاح حجاب، أسرة حجاب نموذج آخر لنمط كان شائعا فى أسر الطبقة الوسطى المتعلمة فى مصر لخمسة عقود- من عشرينيات حتى نهاية ستينيات القرن العشرين- أسر كبيرة عائلها موظف صغير بالحكومة، أو مدرس إلزامى، أو أزهرى جذبته الثقافة الحديثة والجامعة، ممن يحبون أن يُطلق عليهم "مساتير الناس" لهم نوازع أدبية، ويرون أن التعليم هو الهدف الأسمى، ويجازفون بتعليم البنات، وينجح أبناؤهم جميعا فى تحقيق نجاحات باهرة وسط تحديات كبرى، من هذه الأسر مثلا نتذكر: النقاش، أحمد أمين، أمين الخولى الذى كان لابنه، الدكتور أسامة، أستاذ هندسة الطيران بهندسة الإسكندرية ذا تأثير كبير على الطالب أسامة الخولى، من خلال محاضراته الأسبوعية خارج الدرس الجامعى عن الموسيقى الكلاسيكية.

قصيدته الأولى الفصيحة ترافقت مع انفجار الكفاح المسلح ضد الإنجليز فى قاعدة قناة السويس- عام 1951، حين "استشهد صبى من الفدائيين فى نفس سنى، كان عمرى وقتها 11 عامًا بينما عمره 12 عامًا، انفعلت بالحدث"، فجاءت:

كنا غزاة وأبطالًا صناديد صرنا لرجع الصدى للغرب ترديدا/ لكننا سوف نعلو رغم أنفيهم.. وسيكون يوم نسورنا فى الجو مشهودًا

وجاءته النصيحة الحاسمة من شحاتة سليم نصر، أستاذ الرسم والهوايات بالمدرسة الثانوية: "فى بلدك 30 ألف صياد فى قلب كل منهم 10 قصائد أبحث عنها"، وفي الثانوي لم يقو على التمرد: "عندما كتبت الرغبه أدبي قال لي شوف حاجة تدخلك طب أو هندسة، فذهبت في اليوم التالي وغيرت الرغبة لعلمى ودخلت الهندسة، لكن غواية الشعر تمكنت منه تماما فتمرد تمردا مزدوجا: ترك الدراسة بهندسة القاهرة التى كان قد انتقل إليها، ثم هجر بيت العائلة فى شبرا، وتألم الوالد: "كان عندما يقرأ إحدى قصائدى فيشعر أننى مأزوم فيبعث لى برسائل مع أصدقائى إذا ما كنت أريد الرجوع وأشعر بالخجل أو أردت إكمال دراستى فى آداب فإنه سيتقبل الأمر، لكن كان لابد لى أن آخذ الموقف بصرامة لأنه نقطة تحول فى حياتى لاختيار مسارى وحياتى التى أحبها وليس ما يفرضه الآخرون على من أسلوب حياة يلائمهم مع المحبة الشديدة لأبى واحترامه الذى رافقنى طوال العمر".

خلال الحكى عن بدايات الشعر تتردد أسماء محاطة بتقدير ومحبة: الدكتور محمد مندور، أول من قدر شعره، صلاح جاهين: "صلاح رعانى شعريا وإنسانيا وماديا"، الناقد سيد خميس: "كان بيننا من هو ميسور الحال فيتولى الإنفاق علينا، بالتحديد الناقد سيد خميس، وكنا نكتب القصائد، والقصيدة بـ5 جنيهات، واتجه بعضنا لكتابة الأغنية مثل الابنودى، وكتبت لفترة لمجلتى ميكى وسمير".

كانت تحديات التمرد كثيرة، أحدها السجن: أدركت أن رفاق صلاح جاهين (فؤاد حداد ومحسن الخياط وسمير عبدالباقى) كلهم كانوا شعراء عامية داخل معتقلات الرفيق جمال عبد الناصر، وكان جاهين وحيدا فى الساحة، ووجد جاهين فؤاد قاعود، ثم ظهر له شاعر آخر، ثم سيد حجاب، فزاد فرحه وشعر إننا أصبحنا كُثر وبدأ صلاح فى كتابة باب فى صباح الخير باسم "شاعر جديد يعجبنى".

وكان التمرد يولد تمردا كأنه مهجوس بكسر التوقعات، فقد احتفى النقاد بديوانه الأول "صياد وجنية، دار ابن عروس، القاهرة 1964"، وراحت الألقاب تنهال عليه وتتنوع" لوركا، إيلوار، اراجون، ثم يلحق بها إما المصرى وإما العربى. 

لكنه شعر أن شيئا غير صحيح يحدث: "استقبله (الديوان) المثقفون بحفاوة كبيرة، وأصبحت شاعر المثقفين لكنى كنت حزينا لأن الديوان لم يصل لمن ألهمونى هذه القصائد من الصيادين بحكم الأمية الغامرة لبلدنا، وهذا أشعرنى بعبثية المسعى، لذلك قررت الاتجاه نحو المشافهة فبدأت كتابة البرامج الإذاعية مثل "بعد التحية والسلام" وكنت أشارك فيه الأبنودى، لكل منا 15 يوما بالتبادل، ثم بعض الدواوين المستقلة مثل "عمار يا مصر" لكنى لم أهتم بنشرها.. مرة أيام بناء السد العالى تقدمت بأغنية للإذاعة المصرية لحنها محمد فوزى اسمها "يا طير يا طاير"، وكانت متعة أن أتعرف على هذا المبدع العبقرى.

حين لحن محمد فوزى الأغنية كان سيد حجاب فى خضم تمرده الأقصى على: السلطة الأبوية بكل معانيها وتجلياتها، سلطة يوليو، سلطة المثقفين، وكان مشروعه الشعرى فى طور التشكل الأولى.

شارك الخبر على