العروس المهملة

أكثر من ٧ سنوات فى التحرير

لا أذكر بالضبط كم مضى على آخر زيارة لى للإسكندرية، سبع سنوات أو تسع، المهم أنى شددت الرحال لها منذ أسابيع، قلت أزورها ولو ليوم واحد. لاحت لى العروس متوجة بسمائها الصافية، سابحة فى بحرها الواسع ونسائمه العليلة وموجاته الزبدية البيضاء وصوت فيروز يغنى شط إسكندرية يا شط الهوى..

شواطئ المرح والرومانسية وهدوء البال، بيوت الرمال والشمس الذهبية والفريسكا اللذيذة والسمك المشوى، والباعة الجائلين ومحلات الأيس كريم والذرة المشوى.. هذه هى الإسكندرية التى فى مخيلتنا عادة.. وربما لا يرد على خيال البعض عند وجودهم بالمدينة اسم الإسكندر الأكبر، ذلك الإمبراطور اليونانى العظيم الذى ظل يسعى وراء حلمه ببناء إمبراطورية عظيمة تحمل اسمه، وعندما ضم مصر إليها ونزل فى موقع بالبحر المتوسط أعجبه المكان بين جزيرة تدعى فاروس تقع على بحيرة مريوط وبعض القرى فى المنطقة فـأمر بردم جزء من البحر ليصل بين الجزيرة وتلك القرى ليكون بذلك أعظم ميناء فى ذلك الوقت، ويبنى مدينة الإسكندرية التى وقع فى غرامها واختارها عاصمة لإمبراطوريته الكبيرة فى عام 332 ق. م.

جاء بكثير من مهندسى البناء وأمرهم أن يبنوا له أعظم مدينة فى ذلك الوقت، أراد أن يجعلها منارة للعلم فى العالم، فبنى مكتبة الإسكندرية القديمة التى ضمت نحو سبعمائة ألف من الكتب والمخطوطات من جميع أنحاء العالم، كما بنى منارة الإسكندرية، والتى اعتبرت من عجائب الدنيا السبع وقتها لشدة ارتفاعها (35 مترًا).. ظلت فى عهد البطالمة وخلفاؤهم فى مكانتها هذه لنحو ألف عام حتى جاء الفتح العربى لمصر على يد عمرو بن العاص عام 641م، الذى اتخذ الفسطاط عاصمة لمصر بدلا منها.

اخترت مقهى جميلا للجلوس يطل على الشاطئ تحت مظلة، وجلست أحتسى عصيرا طازجا وعيناى تتابعان بعض الموجات المتتابعة، وهى تسابق الريح قبل أن ترتطم بصخور الشاطئ، لم أهتم بمعرفة اسم الحى الذى يقع فيه.. كنت مشغولة بمراقبة شابين دون العشرين يقفان على صخرتين كانا قد ألقيا بسنارتين فى البحر منذ بضع لحظات ووقفا ينتظران ثمرة صيدهما.

أعجبنى أنه ما زال هناك من يمارس هواية الصيد، وعجبت لأن يترك هذان الشابان وسائل التكنولوجيا الحديثة التى تلهى كثيرين عن أمور حياتهم، ويقفان بالساعات أمام البحر منتظرين عطاءه..

على طاولة مجاورة لمحت شابا آخر يجلس موجهًا ناظريه للبحر وهو يرتل بعض آيات القرآن، وبدا لى أنه يتمرن على حفظها، كانت سيمفونية الأمواج ملء السمع والبصر، نسائم البحر وجمال مشهد الموج وهو يعانق رمال الشاطئ يأخذ الألباب.

فى أثناء تمشيتى على الكورنيش قادتنى قدماى إلى قلعة قايتباى بحى الأنفوشى.. لم أكن للأسف قد رأيتها من قبل، وشعرت بكم التقصير من عدم زيارة أثر تاريخى من معالم الإسكندرية، أخذنى مشهد الممر الطويل المؤدى للقلعة والممتلئ بالأكشاك التجارية الصغيرة، التى تصطف على الجانبين وتبيع التذكارات المصرية، لم تكن كلها تذكارات فرعونية، بل اشتملت على تذكارات سكندرية من أشغال يدوية من أصداف البحر والقواقع، فتجد الحلى من أعقاد وسلاسل وقطع أصداف من قاع البحر تتجلى فيها عظمة الخالق.

أخرجت ورقة وقلما من حقيبتى لأدون بعض الملاحظات عن المكان، اقترب منى أحد البائعين وهو ينظر لى ببعض الريبة، سألنى متحرجا: حضرتك من هنا؟
قلت: ماذا تقصد؟
البائع بصوت خافت: من المحافظة مثلا؟
ابتسمت قائلة: لا تخف، لست من المحافظة، لن أعطيك مخالفة شغل الطريق العام.. فقط أدون شيئا قبل أن أنساه.. وأشرت له إلى لوحة جدارية جميلة تبدو من بعيد عند مطلع الشارع..
قالت زوجته التى كانت بجواره طيلة الحديث: آآآآه حضرتك من بتوع الفنون الجميلة.. هذه اللوحة عملها طلبة الفنون الجميلة منذ أعوام.
قلت: نعم تماما، ثم سألتها عن أفضل مطعم للسمك هنا، فأخذت تصف لى الطريق إليه بدقة وقالت: ستجدين على أول الشارع مطعما جديدا صغيرا (ٌفكك منه) واتجهى يمينا لنهاية الشارع حتى تجدى أكبر مطعم سمك فى الأنفوشى..
شكرتهما وانصرفت وأنا أضحك فى داخلى على (فكك منه) وبساطة بنت البلد المصرية.

فى طريقى حاولت أن أغمض عينى عن أكوام القمامة المتراكمة هنا وهناك على الكورنيش وفى الشوارع الجانبية مما يشوه جمال الإسكندرية القديم والتجديدات الملموسة، لكنى لم أستطع إغماض العين عن طفل من أطفال الشوارع كان متكوما فى طريق الخروج من القلعة، نادنى أن أعطيه أى شىء، تأملت شعره البنى الفاتح اللون، وملامحه الرقيقة الملطخة بالتراب وملابسه الرثه، أعطيته ما تيسر لى وتركته والقلب منخلع عليه وأنا أتساءل: كيف تغفل عنه جمعيات حماية الأطفال فى مصر؟

شارك الخبر على