المشروع الثقافي لجمال عبد الناصر رؤية مستقبلية (١ ٣)

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

أولاً: الثقافة في إطار الدولة الحديثة والنظام شبه الليبرالي
لعبت الثقافة دورًا محوريًا في تطور مصر الحديثة في عديد مراحلها منذ حركة البعثات العلمية لأوروبا -وفرنسا على وجه التحديد- منذ تأسيس الدولة الحديثة على عهدي محمد علي باشا، والخديو إسماعيل باشا، والتي ركزت على إعداد الكوادر اللازمة لبناء الدولة والإدارة في عديد المجالات، إلا أن بناء الجسور التعليمية مع أوروبا لم تقتصر على الجوانب المتصلة بالتحديث السلطوي، وإنما نتج عنها تكوين نخبة جديدة ومثقفة شبه حداثية، تبلورت معالمها مع تطور مشروع إسماعيل باشا السياسي واهتمامه البالغ بالجوانب الثقافية، والاجتماعية، من خلال استعارة الهندسات القانونية الحديثة كثقافة قانونية حداثية وضعية المصدر والأبنية والعلاقات التي تتأسس عليها. من ناحية ثانية: تأسيس دار الأوبرا – والتأليف الأوبرالي لأوبرا عايدة للإيطالي فيردى-، وبروز بعض المفكرين البارزين كرفاعة رافع الطهطاوي، وآخرين. من ناحية ثالثة: إنشاء دار الأوبرا والتخطيط العمراني، وطرزه الأوروبية في القاهرة الخديوية الحديثة. لا شك أن الثقافة بالمعنى العام للمصطلح كانت تشكل أحد أهم محاور حركة إسماعيل باشا في إطار تحديثى وشبه حداثي.

كان من أبرز ملامح عمليات بناء الدولة الحديثة، هو إنتاج المثقف الحديث/ التحديثي وشبه الحداثي، واكتسب خصوصية مغايرة لميلاد المثقف الحديث والحداثي الغربي في فرنسا في أعقاب قضية درايفوس في فرنسا زائعة الصيت. وجه الخصوصية أن المثقف داخل الدولة أو أحد مؤسسيها وخارجها في ذات الوقت، وهو ما استمر مذاكَّ، وحتى مراحل تطور ثورة يوليو 1952. في المرحلة شبه الليبرالية تطورت الثقافة في أطر انفتاحية على أوروبا، وعلى التعايش والتفاعل الثقافي بين بعض الجاليات الأجنبية والمتمصرين، والشوام والمصريين، وحول المدن الحديثة الكوزموبولوتيانية في القاهرة والإسكندرية أساسًا. 

هذا النمط من الانفتاح المنظم على أوروبا -التعليم والترجمة- والحضور المتعدد الثقافات للأجانب والمتمصرين والشوام والمصريين، أدى إلى تكوين نخبة ثقافية شبه حداثية، استطاعت إنتاج ازدهار ثقافي في نظام سياسي شبه ليبرالي وشبه مفتوح، وهو ما أثر على الإنتاج الثقافي المصري في إطار الدولة، والجمعيات الأهلية، والصحافة عمومًا والثقافية خصوصًا، كالرسالة والكاتب المصري.. إلخ، والقطاع الخاص. هذا الفضاء شبه الليبرالي الثقافي، شكل البيئة الحاضنة لنشأة السينما والمسرح والتأليف الموسيقي، وتأسيس الرواية والقصة القصيرة وتطور القصيدة العربية/ المصرية، وتطور التصوير والنحت، وإنشاء الجامعة المصرية. 

كانت المبادرات الطوعية في المجال الثقافي لا سيما الفنون بارزًا وحيويًا في تطور الثقافة المصرية. نستطيع القول إن هذه المرحلة الحيوية أدت إلى فتح المجال أمام الترجمة، واستعارة الأفكار والرؤى الأوروبية في عديد المجالات، وفي مجال الكتابات النقدية للتراث، وطرح أفكار ومقاربات نقدية وتجديدية هامة في مجال الفكر الديني وإصلاحه، سواء من بعض المفكرين الليبراليين كطه حسين، وعلي عبد الرازق، وفتحي زغلول، وعباس العقاد، وشبلي الشميل.. إلخ. أو بعض الأزهريين من محمد عبده إلى مصطفى المراغي، ومصطفى عبد الرازق، وخالد محمد خالد، وعبد المتعال الصعيدي، ومحمد عبد الله دراز، ومحمود شلتوت، وفي إطار مدرسة الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق جامعة القاهرة الشيخين أحمد إبراهيم، وعلي الخفيف، وآخرين. نستطيع القول إن هذه الحقبة شبه الليبرالية، شكلت فوائض من الحيوية الثقافية، ودعم وتأسيس العقل الناقد، والفكر النقدي، في إطار من الحريات العامة وعلى رأسها حرية الرأي والتعبير والنشر. وحرية التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية على نحو أضفى ديناميات على الجماعات الثقافية، وإنتاجها.

لا شك أن البيئة السياسية والثقافية المصرية في الحقبة شبه الليبرالية أدت إلى تحولها إلى مركز حاضن وملاذ آمن للمثقفين والمفكرين العرب، وفي إطار تطور مفهوم الأمة المصرية الحديثة، على نحو ساهموا في الإنتاج والإبداع الفني المصري في المسرح والسينما والغناء والموسيقى والصحافة، وفي تأليف الكتب، وكتابة المقالات في الصحف. من ثم لعبت مصر دورًا ثقافيًا بارزًا في المنطقة العربية، وأثرت على تطور الثقافات العربية.

ثانيًا: المشروع الثقافي في إطار المرحلة الناصرية جدل الاستمرارية والتغير
المشروع الثقافي للناصرية اعتمد على بعض الفوائض الحيوية لإنجازات المثقفين والمبدعين المصريين وغيرهم من المتمصرين من الشوام والانفتاح الثقافي، وثقافة المدينة الحديثة الكوزموبولتيانية وعلى رموز هذه الحقبة شبه الليبرالية كطه حسين والعقاد وسلامة موسى وخالد محمد خالد وحسين فوزي ولويس عوض وآخرين. غالب هؤلاء المفكرين الكبار أيدوا ثورة يوليو 1952، وجمال عبد الناصر ومشروعه الاجتماعي، وإن تحفظوا على بعض القيود التي فرضت على الحريات العامة السياسية وحريات الرأي والتعبير والنشر، وعلى المجال العام السياسي، وحرية المبادرة الفردية. على الرغم من هذه التحفظات إلا أن غالبهم شارك بفعالية في العمل الثقافي والمؤسسات التي أسسها النظام الناصري للتخطيط وإدارة العمل الثقافي، وهو ما شكل بعضا من الاستمرارية الثقافية.

شكل التحول من النظام شبه الليبرالي والتعددية الحزبية إلى صيغ التنظيم السياسي الواحد أحد مصادر التوترات والأزمات بين بعض مكونات الجماعة الثقافية المصرية، وبين النظام الناصري، لا سيما الليبراليين والماركسيين، من هنا ظهرت بعض الفجوات بين هذين المكونين البارزين – والاستثناءات محدودة داخلهم- وبين الناصرية التي كانت تتشكل كفكرة وتجربة ومشروع من خلال التجربة والخطأ.

 كان من أبرز علامات هذا الخلاف حول قضايا الحريات العامة، الحوار الذي شجر بين الرئيس ناصر وبين خالد محمد خالد أثناء مناقشات المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي كان يناقش الميثاق الوطني، كان الرئيس يعرف من هو خالد محمد خالد وقيمته ووزنه، ولم يحدث تجاه أي إجراء من الإجراءات القمعية أو الأمنية، على الرغم من شجاعة خالد محمد خالد وطرحه الليبرالي الجرىء. من ناحية أخرى أثناء الخلاف السياسي بين ناصر واليسار المصري، واعتقال بعض قياداته وكوادره البارزة، في معتقل الواحات أرسل الرئيس الذي كان يعرف قيمة بعض مفكري مصر، الخطة الخمسية الأولى إلى أساتذتي الكبار وأصدقائي إسماعيل صبري عبد الله، وفؤاد مرسي، وأبو سيف يوسف لاستطلاع رأيهم ومعرفة ملاحظاتهم عليها، وهو ما قاموا به، وتم نقل د. إسماعيل صبري إلى القاهرة من المعتقل ليعرض رأيهم على الرئيس، وهو ما تم وموافقتهم عليها، ثم عودته إلى المعتقل. الواقعتان السابقتان كاشفتان عن معرفة ووعي القيادة السياسية وتقديرها لأهمية ووزن كبار المفكرين المصريين ودورهم في العمل الوطني ومشروع التنمية.

شارك الخبر على