داخل سجل مدنى

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

نظرتُ إلى الجمع الغفير المنتظر أمام الشباك الذى أريده فى سجل مدنى المعادى، للحصول على أحد المستخرجات الرسمية التى أحتاجها.

عدة دقائق مرت ومكان الموظفة المعنية لا يزال خاويًا، الجميع يتلفت حوله، سألت ما الأمر؟ قيل لى إن جهاز الكمبيوتر أصابه عطلٌ مفاجئ.. وأين الموظفة؟

رد آخر: يعنى فيه استخراج أوراق ولا نروّح؟

الله أعلم.. يا رب.

يا رب..

يا مسهل.

بدأ الجميع فى إرسال ابتهالاتهم للسماء ويبدو أن الموظفة سمعتهم فخرجت من مخبأها تقدمت بخطوات بطيئة، تجرجر ساقيها تحملان جسدها المثقل بالهموم والدهون، تتربع على وجهها تكشيرة الألم والمعاناة، تعمل فى هذه المكان منذ عقدين من الزمان، الأيام تشبه بعضها، الوجوه متماثلة، نفس صيحات الشكوى والتأفف من روتين لا تواجهه فى عملها فقط بل فى حياتها الخاوية إلا من عزوبيتها.

واجهت الجمهور أمام شباكها بنظرة باردة يملؤها ملل الدنيا كله، ودون تعليق ألقت نظرة على جهاز الكمبيوتر.

سألتها وهى تمد يدها لتضغط على لوحة المفاتيح: هل فيه أمل أن يعمل الجهاز؟

ربنا يسهل، أهو كل يوم كده.

وليه متبلغيش الإدارة علشان يصلحوه أو يغيروه.

نظرت لى نفس النظرة: والنبى انتي طيبة قوى.

زادت الدعوات، يا مسهل يا رب، يا مسهل يا رب.

لحظات ثقيلة ثم جلست الموظفة على مقعدها أمام شباك المكتب ومدت يدها تتناول طلب المواطن الأول فى الطابور، هتف الجميع: الحمد لله، الحمد لله، وكان هذا إعلانا بأن الجهاز عاد للعمل بفضل الدعاء.

لا يمكن استخراج ورقك من هنا، لا بد أن تذهب لسجل حلوان ثم العباسية، ثم.... ، قاطعها الرجل بضجر قائلا: لا داعي، لن أستخرج شيئا، استدار وغادر المكتب.

جاء دور فتاة شابة قبلى، مدت يدها بأوراقها للموظفة التى طرقت على لوحة المفاتيح دقيقتين لإدخال الاسم، ثم سألتها: فين ما يثبت لاستخراج قيد الطلاق.

قاطعتها الشابة مستنكرة: طلاق إيه لا سمح الله، بقولك أريد نموذج قيد زواج، ثم ابتسمت وهى تنظر لى ولمن حولها: ده أنا لسه ما لحقتش.

نظرت الموظفة للفتاة بملء عينيها، انتظرت أن تعتذر لها، أو حتى تبتسم، لكنها قالت بصوت جاف: إيه اللى حصل يعنى؟ كلمة قولتها.

سلمتها النموذج وأخذت النقود المطلوبة.

اللى بعده.

تقدمت لها بصورة من قيد ميلادى وأنا أبتسم لها لعلي أرسم شبح ابتسامة على هذا الوجه العابس، لم ترد الصباح وسألتنى ما طلبك؟

نموذج شهادة وفاة لأمى توفيت منذ 7 سنوات.

ما تاريخ الوفاة بالضبط؟

16 يناير 2011.

سمعت أحدهم يقول: ياااه، قبل الثورة ببضعة أيام.

قلت أحدث نفسى.. عندما توفيت قامت ثورة.

سمعت آخر يقول: ليتها بقت.

أخذت الورقة المطلوبة وغادرت هذا المكان المتواضع المهمل الخفى فى ممر سرى خلف بناية قرب طريق أتوستراد المعادى.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على