الإمارات وهندسة السلام الإقليمي
٢٤ يوم فى الإتحاد
تُواصل دولة الإمارات العربية المتحدة ترسيخ مكانتها كصوتٍ رائدٍ في المنطقة، يقود الجهود نحو الاستقرار ويعيد رسم ملامح الشرق الأوسط على أسسٍ من الحكمة والتعاون. وجاء اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في غزة، الذي أُعلن قبل أيامٍ على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ليؤكد مجدداً أن صوت الإمارات بات حجر الزاوية في هندسة السلام الإقليمي. فهذا الاتفاق، الذي يُمهّد للإفراج عن الأسرى ويفتح الطريق أمام إعادة إعمار القطاع، ما كان ليبصر النور لولا الرؤية الإماراتية المتوازنة، ودبلوماسيتها الفاعلة، وإنسانيتها التي لا تعرف التردد في نصرة الشعوب.منذ توقيع الاتفاقات الإبراهيمية عام 2020، عملت الإمارات على تحويل ثقافة الصراع إلى ثقافة تواصل، ونجحت في بناء قنواتٍ واقعية للتعاون والحوار حتى في أحلك الظروف. وحين اشتدت الأزمة في غزة، حافظت الدولة على توازنها الأخلاقي والسياسي، فمدّت يد العون الإنساني دون أن تتخلى عن مناداتها الدائمة بالحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية. ومنذ مطلع عام 2025، شاركت الإمارات بفاعلية في مشاوراتٍ جمعت مسؤولين من الولايات المتحدة وإسرائيل حول مستقبل الحكم في غزة بعد الحرب، مقدمةً رؤى عملية لتأسيس إدارةٍ مؤقتة تمهد لاستقرارٍ طويل الأمد في القطاع، لتؤكد مكانتها كركيزةٍ في بناء السلام الإقليمي.ولا يمكن الحديث عن هذا الدور دون التوقف عند الجهد الإنساني الإماراتي الهائل منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023. فقد تكفلت الدولة بنسبة 42% من مجمل المساعدات الدولية المقدمة لغزة، بما يعادل أكثر من 1.8 مليار دولار من الغذاء والدواء والمأوى والمياه، إلى جانب 65 ألف طن من الإمدادات، و60 عملية إسقاط جوي، ومئات القوافل البرية التي جرى تنسيقها عبر قنواتٍ فاعلة أتاحتها الاتفاقات الإبراهيمية. جهودٌ لم تخفف فقط من معاناة الأبرياء، بل أعادت ترميم الثقة وأثبتت أن الدبلوماسية الإماراتية تُبنى على أفعالٍ ملموسة لا على الشعارات.وقد عبّر الفلسطينيون أنفسهم عن امتنانهم، حين رُفعت الأعلام الإماراتية في احتفالات وقف إطلاق النار، في مشهدٍ يلخص مكانة الإمارات في وجدان الشعوب. فبينما تكتفي بعض الأصوات بالشعارات، كانت الإمارات على الأرض، تُعالج الجرحى في مستشفياتها، وتدعو إلى مصالحةٍ حقيقية، وتؤسس لمرحلةٍ جديدة عنوانها الإعمار لا الدمار. وانطلاقاً من سياستها الثابتة، حافظت الإمارات على نهجٍ متوازن يجمع بين إدانة العنف بكل أشكاله والدعوة إلى حل الدولتين وضرورة ضبط النفس من جميع الأطراف. وخلال الدورة الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، أكد سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية، هذا الموقف في لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مشدداً على أن الواقعية السياسية هي الطريق نحو سلامٍ مستدامٍ وعادل.ويُبرز الدور الإماراتي التحول الأوسع في نهج المنطقة، إذ باتت الدولة تقدم نموذجاً جديداً في الدبلوماسية الإيجابية، يقوم على الاستثمار في الاستقرار، وبناء الشراكات بدلاً من الاصطفافات. كما استطاعت الإمارات توحيد جهود شركائها الإقليميين، من المملكة العربية السعودية إلى مصر والأردن، في دعم هذا الاتفاق، ما عزّز العزلة السياسية للتطرف وأرسى أرضيةً صلبةً للتفاهم. وقد حظي هذا المسار بإشاداتٍ واسعة من دولٍ إسلامية كبرى، مثل باكستان وإندونيسيا، تأكيداً على أن الرؤية الإماراتية لـ «غزة جديدة» قائمة على التنمية والازدهار لا الصراع، أصبحت محل تقديرٍ عالمي.ومع أن الطريق إلى السلام ما زال طويلاً، إلا أن التزام دولة الإمارات بالعمل الهادئ والمستمر يمنح الأمل بأن السلام في الشرق الأوسط لم يعد حلماً بعيداً. ومن مبادرات الحوار بين الأديان، وبرامج الإعمار والتنمية، إلى الدور المتنامي في الوساطة، تُثبت الإمارات أن بناء السلام ليس عملاً طارئاً، بل مشروعٌ وطني وإنساني متكامل.لقد رسّخت دولة الإمارات فلسفةً دبلوماسيةً فريدة، تقوم على الدمج بين القوة الناعمة والحكمة السياسية، لتبرهن أن السلام الحقيقي لا يُفرض، بل يُصنع بعقولٍ واعيةٍ وقلوبٍ صادقة. ومع هذا الاتفاق التاريخي، تواصل الإمارات مسيرتها كمهندسٍ إقليمي للسلام والتعايش، وكصوتٍ حضاريٍّ يُعبّر عن روح المنطقة في أبهى صورها.
* مستشار برلماني