د. عبدالله الغذامي يكتب الجماهير بوصفهم مطلباً وهدفاً

١١ يوم فى الإتحاد

لنبدأ من المتنبي وتوقه للجماهيرية وفي بيته الذي يقول: ودع كلّ صوتٍ غير صوتي فإنني أنا الصائح المحكي والآخرُ الصدى وهو بيت يكشف تعلقه بأن يكون الصوت الأوحد ويكتسح كل شاعر غيره، بل يحولهم إلى مجرد صدى لصوته، وهو الذي إذا قال أسمع الأصم وجعل الأعمى يراه دون غيره في استثناء وجودي خارق، وكانت خطته هي الاستحواذ على أهم منصة ثقافية في زمنه وهي مجلس سيف الدولة الحمداني، وهو المجلس الذي تعالى بصوت المتنبي، وتعالى المتنبي به، ولذا جرت محاربته بكل الطرق حتى تمكن منه خصومه وتشرد في أطراف المعمورة حتى وصل لأرضٍ لا تحقق له جماهيرَ كان يسعى إليها، وقال بيته عنها (ولكن الفتى العربي فيها غريبُ الوجه واليد واللسان)، وغادرها ليموت في طريقه بعيداً عن جماهير كانت ستحميه لولا أنهم غابوا حين كان في حاجتهم. وإن فقد جمهوره حياً، فقد كسب جماهيرَ لا تحد بمكان ولا زمان لأنه يستحق ذلك.ويقابل مثال المتنبي، مثالُ أم كلثوم بذكائها الخارق في الإمساك بالجماهير، حيث أدركت بحسها المرهف تحولات الذائقة الفنية مع تغيرات العصر، فلجأت لملحنٍ شابٍ هو بليغ حمدي متخليةً عن عبء إرثها الفني العظيم، وجازفت مع بليغ لتخترق ذائقة الجيل الشاب وتتمسك بكرسي الصدارة، وهذه حركةٌ خارقةٌ لا تحدث إلا من عقل شجاع وذكي، وقد وعت شرط الجماهيرية المتغير فاستجابت للتغير.على أن تعمد الحصول على الجماهيرية والتخطيط لها هي سمةٌ رأسماليةٌ بمعنى أن المطرب والممثل وما شبههما لا تتحقق لهما المهنية إلا عبر جماهيرية عريضة تجلب المال. وهذا شرط لتمكينهما جذب المنتجين الفنيين لتوظيف جماهيريتهما للكسب والرواج، وهذا معنى استثماري حين يكون الجمهور هو رأس المال ودونه يسقط العمل.وفي ظاهرة المشاهير في «السوشال ميديا»، يظهر بوضوح ترابط المال والشهرة، وكل مشهور إما أن يكسب مالاً تصنعه جماهيريته ويكسب المعلنين تبعاً لذلك، أو أن يخرج من السوق.والمال عنصرٌ أساسٌ في الإبداع منذ زمن النابغة والأعشى مخترعاً فكرة التكسب بالشعر وإلى اليوم حيث مبيعات الكتب هي التي تدفع الناشرين للتسابق على الكتب ذات الجذب العام، وهي مسألةٌ أدركها نزار قباني بذكائه المالي، حين لاحظ مبيعات كتبه وكسب الناشرين منها، فتحول ليكون ناشراً، وأسس دار نشر خاصة به، وقال دعوا كل صوت غير صوتي كما فعل جده الحلبي.كاتب ومفكر سعوديأستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض

شارك الخبر على