جاهزون لإعداد قادة المستقبل

15 days in الإتحاد

منذ قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، ارتكز المشروع الوطني على الإنسان باعتباره أساس التنمية وغايتها. وقد لخّص المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، هذه الرؤية حين قال: «إن بناء الإنسان هو الركيزة الأساسية لبناء الحضارة». بهذه الكلمات، وضع القائد المؤسس البوصلة الاستراتيجية التي جعلت من الاستثمار في الإنسان نقطة الانطلاق لمسيرة تنموية رائدة واستثنائية.ففي بدايات السبعينيات، كان التعليم محدوداً، والمدارس قليلة، والإمكانات متواضعة، بينما كان محو الأمية أبرز التحديات.
غير أن الرؤية الوطنية سرعان ما تحولت إلى سياسة شاملة جعلت التعليم أولوية قصوى، فانطلقت الجامعات الوطنية والعالمية، وارتفعت معدلات الالتحاق إلى مستويات شبه شاملة، لتصنع قاعدة معرفية صلبة امتدت عبر خمسة عقود. واليوم، تقف دولة الإمارات وقد أنجزت قفزة حضارية هائلة، إذ لم تكتفِ ببناء نظام تعليمي متين، بل دخلت بقوة إلى عصر الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي، وأصبحت في مصاف الدول الرائدة عالمياً في الاستثمار في هذا القطاع.
وتشير تقديرات دولية إلى أن الإمارات تحتل المراتب الأولى عالمياً في حجم استثماراتها في الذكاء الاصطناعي، التي تُقدّر بعشرات المليارات من الدولارات، مع بناء مراكز بيانات متقدمة ومشاريع استراتيجية ترسم ملامح مستقبل واعد، تتبوأ فيه الإمارات موقعاً قيادياً في اقتصاد المعرفة والتحول الرقمي. ووفقاً لبيانات الحكومة، حققت الخدمات الحكومية الرقمية في عام 2024 أكثر من 173 مليون معاملة عبر المنصات الذكية، بمعدل رضا تجاوز 91%. كما تستهدف استراتيجية الاقتصاد الرقمي رفع مساهمته إلى أكثر من 20% من الناتج المحلي غير النفطي بحلول 2030 بعدما بلغ نحو 11.7%.
هذه الأرقام لا تعكس مجرد تقدم تقني، بل تؤكد قدرة الكوادر الوطنية على قيادة التحولات التكنولوجية بمهارة واقتدار. وفي امتداد لهذا النهج، أطلقت وزارة الدفاع برنامج «جاهزون» ليجسد فكرة أن الاستثمار في الإنسان لا يقف عند حدود التعليم، بل يتطور إلى صناعة القادة. ويهدف البرنامج إلى إعداد وتأهيل نخبة من الضباط والمدنيين المسلحين بمهارات قيادية واستراتيجية متقدمة تستجيب للتحولات العالمية المتسارعة، في خطوة تؤكد أن صناعة القادة تعد مشروعاً وطنياً شاملاً يعزز الجاهزية المؤسسية والفكرية. و«جاهزون» ليس مبادرة منفردة، بل حلقة ضمن سلسلة من البرامج والمبادرات التي أرستها القيادة الرشيدة. فمبادرة «نافس» على سبيل المثال لا الحصر وفرت آلاف الفرص الوظيفية في القطاع الخاص، وربطت الكفاءات الوطنية بالشركات الكبرى، فيما أتاحت مبادرة «كوادر الإمارات العالمية» للشباب فرصاً للتفاعل مع مؤسسات مالية واقتصادية دولية، وصقل خبراتهم في بيئات عالمية. ورغم اختلاف الأهداف المباشرة لهذه البرامج، فإنها تلتقي جميعاً عند غاية واحدة: الاستثمار في الإنسان الإماراتي باعتباره أساس التنمية وضمانة المستقبل. وهو ما عبّر عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بقوله: «رهان الإمارات الحقيقي هو على أبنائها». ويتميز برنامج «جاهزون» بأنه يتجاوز الإعداد التقليدي إلى تأسيس ثقافة قيادية متكاملة، تدمج بين مهارات التفكير النقدي، والتخطيط الاستراتيجي، وإدارة الأزمات، إلى جانب قيم الانضباط والمسؤولية الوطنية.
وهذا البعد يضع الإمارات في موقع الدولة التي لا تكتفي بمواكبة التحولات، بل تُعِدّ قادتها ليكونوا في صدارة هذه التحولات، سواء في المجال العسكري أو المدني، الوطني أو العالمي. وفي المحصلة، فإن إطلاق «جاهزون» يمثل امتداداً لمسيرة بدأت من مواجهة الأمية وتوفير التعليم للجميع، وصولاً إلى إعداد قادة قادرين على التعامل مع أدوات العصر وصناعة السياسات. إنها رحلة تؤكد أن الإمارات لم تُبنَ على الموارد وحدها، بل على العقول التي حوّلت الموارد إلى إنجازات.
* صادرة  عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية. 

Share it on