الذكاء الاصطناعي في الفضاء العام

حوالي شهران فى الإتحاد

يُشكّل الذكاء الاصطناعي، في السنوات الأخيرة، ملامح ثورة تكنولوجية لا تقل أهمية عن التصورات الصناعية التي حولت مسار البشرية بصورة كلية في محطات عدة. ولم يعُد الذكاء الاصطناعي مجرد مفهوم يتحدث عن المستقبل، بل أصبح واقعاً، ومفردةً من مفردات حياتنا اليومية كأفراد، يتشابك مع كل جوانب حياة الفرد اليومية، ومن هنا أصبح للذكاء الاصطناعي تأثيره في الأمن الاجتماعي.بدايةً، يعبِّر مفهوم الفضاء العام عن البيئة التي يتفاعل فيها الأفراد بشكل يومي، سواء في العالم الواقعي، أو الافتراضي. وقد أصبح الذكاء الاصطناعي عنصراً محوريّاً في هذين العالمين، من خلال تطبيقات متنوعة تشمل المنصات الرقمية، وشبكات التواصل الاجتماعي، التي تعتمد على خوارزمياته، كما تستفيد منه أنظمة وتطبيقات خرائط جوجل في تحليل حركة المرور واقتراح أفضل المسارات للمستخدمين، ويُوظف كذلك في المساعدات الصوتية المنزلية مثل «سيري» و«أليكسا» لفهم الأوامر الصوتية، وتنفيذها، إلى جانب العديد من التطبيقات الأخرى التي نستخدمها يومياً من دون أن ندرك أن خلفها منظومة تقنية متكاملة يُشكّل الذكاء الاصطناعي جوهرها.ويقدم الذكاء الاصطناعي أدوات وقدرات تسهم في تعزيز الأمن الاجتماعي للدولة، فعلى سبيل المثال تعتمد أنظمة مراقبة الأوضاع الأمنية على تقنيات الذكاء الاصطناعي لرصد الأماكن العامة، ما يساعد على التعرُّف إلى التهديدات المحتمَلَة، وتوقُّع الأنشطة الإجرامية، وتحليل الأحداث بصورة تُمكّن الحكومة من اتخاذ إجراءات وقائية استباقية. وقد أسهم ذلك في تصدُّر مدينة أبوظبي قائمة المدن الأكثر أماناً في العالم لتسع سنوات متتالية منذ عام 2017، كما شملت قائمة المدن العشر الأولى إلى جانب أبوظبي كلّاً من دبي، والشارقة، ورأس الخيمة، وعجمان.
كما يُسهم الذكاء الاصطناعي بصورة فاعلة في تحسين جودة حياة كبار السن وذوي الهمم، من خلال تطبيقات تذكِّرهم بمواعيد الأدوية، وتسهِّل تواصلهم مع أسرهم، ما يعزِّز شعورهم بالأمان، ويمنح ذويهم الطمأنينة في أثناء ممارستهم حياتهم الطبيعية من عمل وزيارات وغيرها، وبذلك يرسُخ الأمن الاجتماعي للمجتمع بأسره.ووسط زخم الإيجابيات يبرز العديد من التحديات التي تؤثر في الأمن المجتمعي، ومن أبرزها انتهاك الخصوصية والبيانات الشخصية، إذ تجمع أنظمة الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من البيانات عن الأفراد، ويشمل ذلك سلوكياتهم، واهتماماتهم، وتحركاتهم، ما قد يهدد الخصوصية الفردية، ويعرِّض الأفراد للاستغلال، إذا لم تكن هناك قوانين صارمة تنظِّم ذلك. كما تبرز مشكلة التحيُّز في قدرات الذكاء الاصطناعي، إذ لا يمكن ضمان حيادية المبرمجين، ما قد يؤدي إلى تضليلٍ، أو إلى مغالطات معرفية وتاريخية موجهة نحو ثقافة أو فكرة معينة. أمّا التحدي الأخطر، من وجهة نظري، فيكمن في شقين هما التبعية التكنولوجية، والهشاشة الاجتماعية، الناتجتان من الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي، إذ يضعف هذا الاعتماد المهارات البشرية في اتخاذ القرارات، وحل المشكلات، ويؤدي إلى تراجع التواصل المجتمعي بين الأفراد، الأمر الذي يؤثر سلباً في التماسك الاجتماعي.وقد أدركت قيادتنا الرشيدة مبكراً الفرص والتحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي في الفضاء العام، فكانت الإمارات من أولى الدول التي أطلقت استراتيجيةً للذكاء الاصطناعي، ومؤخراً أطلقت نموذج «كي 2 ثينك – K2 Think»، كما حرصت على دمجه في المنظومة التعليمية، بهدف إعداد أجيالٍ متوازنة في استخدام قدرات الذكاء الاصطناعي، وخلق بيئةٍ رقميةٍ آمنة.
ويشكِّل الذكاءُ الاصطناعي سيفاً ذا حدين في الفضاء العام للأفراد، فمن جهةٍ تراه يقدم فرصاً لتعزيز الأمن المجتمعي، وتسهيل الخدمات والحياة اليومية، ومن جهةٍ أخرى يطرح العديد من التحديات، كما أوضحتُ، ويقدِّم النموذجُ الإماراتي خريطةَ طريقٍ واضحة لكيفية التعامل مع هذه التحديات، من خلال تبنِّي منظومة استباقية تجمع بين التشريعات الحامية، والاستثمار في التكنولوجيا، وبناء القدرات البشرية. إنّ استخدامَ الذكاء الاصطناعي بشفافية ومسؤولية يجعله أداة فعَّالة لبناء مجتمع أكثر أماناً وتماسكاً وتطوُّراً.
د. شما بنت محمد بن خالد آل نهيان**باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي، أستاذ زائر بكليات التقنية العليا للطالبات، أستاذ زائر بجامعة الإمارات العربية المتحدة.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على