رؤية «نكروما».. واستشراف مستقبل أفريقيا

about 1 month in الإتحاد

مع انصراف قوى العالم عن القارة، قد تحمل رؤية كوامي نكروما مفتاح تحقيق إمكاناتها اليوم. وبعد فترة وجيزة من تنصيب جون كينيدي رئيسا للولايات المتحدة، استقبل أول زيارة لزعيم أجنبي. لقد اختار «كوامي نكروما»، أول رئيس لغانا. وبالمعايير الحالية، حيث تبدو أفريقيا على هامش الاهتمام العالمي، فإن هذا الاختيار آنذاك يكاد يكون مستحيلا. لكن حتى عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ، بدأ كينيدي يرى في أفريقيا قارة مليئة بالوعود. ووفقاً لإحصاء واحد، فقد ذكر كينيدي أفريقيا 479 مرة في خطاباته الانتخابية عام 1960. وبصفته رئيساً، كان حريصاً على التنافس على النفوذ هناك مع الاتحاد السوفييتي، بل والاصطفاف مع مناهضي الاستعمار، ما أثار توتراً مع حلفاء أميركا الأوروبيين.
حتى اغتيال كينيدي، ظل نكروما المحاور الأفريقي الأهم للرئيس الأميركي، ما يعكس كاريزما الزعيم الغاني والمكانة الكبيرة التي اكتسبها في القارة عندما قاد بلاده إلى الاستقلال من الحكم الاستعماري عام 1957 بطريقة سلمية. مدفوعاً بإيمانه بالوحدة الأفريقية، عمل نكروما بلا كلل لتجاوز الإرث المُجزّأ للحكم الاستعماري عبر القارة.
ولم تنسحب الولايات المتحدة من أفريقيا بعد وفاة كينيدي، لكنها خفّضت بشكل حاد من أهمية القارة في قائمة أولوياتها. وسرعان ما تقلّص الدور الأميركي إلى سياسة منافسة محصلتها صفر تقريباً مع موسكو، حيث سعى كل طرف لتشكيل تحالفات هدفها تقييد نفوذ الآخر. وغالباً ما شملت هذه التحالفات علاقات عسكرية ودعماً مالياً محدوداً لأنظمة استبدادية، دون اكتراث كبير بالديمقراطية أو الحكم الرشيد أو التنمية الاقتصادية طويلة الأمد. ومنذ نهاية الحرب الباردة وتفكك الإمبراطورية السوفييتية، تراجع الانخراط الأميركي في أفريقيا بشكل حاد واقتصر في معظمه على المساعدات الإنسانية.
وتحت حكم الرئيس ترامب، أصبح حتى هذا موضع شك، مع إلغاء شبه كامل للوكالة الأميركية للتنمية الدولية وخطط واضحة لإنهاء دعم برنامج «بيبفار» (برنامج مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية) الذي أنشأه جورج بوش الابن وحقق نجاحاً ملحوظاً في مكافحة الإيدز في أفريقيا. هذا الصيف، بلغ الوضع أدنى مستوياته عندما أفادت وسائل الإعلام أن البيت الأبيض يدرس تقييد دخول 25 دولة أفريقية إلى الولايات المتحدة، إضافة إلى الدول السبع المشمولة بحظر صدر في يونيو. وبينما تضع واشنطن قيوداً على هجرة الأفارقة، بدأت تبحث أيضاً عن وسائل لاستخدام القارة كمكان ليس فقط للأفارقة المُرحّلين من الولايات المتحدة، بل لأشخاص من قارات أخرى أيضاً. إن انسحاب الولايات المتحدة من أفريقيا يعكس تطورات عالمية أوسع. فقد تراجع أيضاً انخراط أوروبا مع القارة، ويتجلى ذلك في انسحاب فرنسا من مساحات واسعة في غرب أفريقيا (منطقة الساحل). واليوم أصبح الهمّ الأكبر للقوى الاستعمارية السابقة – والاتحاد الأوروبي عموما – هو منع موجات الهجرة المتزايدة من القارة.في ضوء هذه الاتجاهات، تبدو رؤية نكروما حول كيفية تفاعل أفريقيا مع العالم منطقية بشكل لافت. فقد كان تمسكه بالحياد الإيجابي قائما على أكثر من مجرد إيمان مبدئي بأن على الدول الأفريقية أن تكون حرة في متابعة مصالحها مع أي شركاء تريد.
نكروما كان متشككاً في فكرة أن أي شريك خارجي سيلتزم بتطوير أفريقيا على المدى الطويل. كان يعتقد أن واجب التطوير يقع قبل كل شيء على عاتق الأفارقة أنفسهم. في ذلك الوقت، واجه نكروما معارضة وسخرية من بعض القادة الأفارقة الذين اعتبروا حلمه بدمج عشرات الدول الجديدة في حكومة قارية أمراً غير واقعي.
لكن أفكاره كانت أكثر دقة، ورؤيته التكتيكية أكثر صبراً مما نُسب إليه في زمانه. فطالما بقيت القارة مقسّمة، ومعظمها دول صغيرة من حيث المساحة والسكان، وكثير منها غير ساحلية، ما يحكم عليها بالفقر وعدم الاستقرار – فإنها ستظل متخلفة. كما أن صغر حجم أسواقها يجعل من شبه المستحيل التصنيع أو الانخراط مع العالم الخارجي بشروط متوازنة. وكان نكروما يدعو إلى أكثر من مجرد استخراج الموارد الطبيعية والمعادن، بل إلى التحول المحلي لهذه الموارد والسلع داخل القارة.
ورأى الزعيم الغاني أن هذا التوجه نحو وحدات أكبر – اقتصادياً وسياسياً – يجب أن يكون عبر خطوات تطوعية متتالية: تبدأ بتكامل الأسواق وشبكات الطرق والسكك الحديدية، ثم ربما الاندماج على المستوى الإقليمي قبل أي محاولة بعيدة لتشكيل اتحاد يشمل، مثلا، غرب أفريقيا أو شرقها أو جنوبها. أما الاتحاد القاري فكان بالنسبة له هدفاً بعيد المدى. وقد رأى أن هذا هو مستقبل قارته، كما شرح لزملائه في القمة التأسيسية لمنظمة الوحدة الأفريقية في أديس أبابا عام 1963. رفض زعماؤه الأفارقة فكرته حينها. لكن تاريخ القارة لاحقاً – ستة عقود من الحرمان والفقر والفساد – كشف بوضوح ثمن وجود عشرات الدول الصغيرة التي تدير ظهرها لبعضها البعض.
وفي غياب التعاون، ظلت فقيرة ومضطرة للتعامل مع العالم الخارجي ككيانات ضعيفة. ويبقى الأمر متروكاً للأفارقة أنفسهم لفتح مستقبلهم الاقتصادي، وربط هذا النمو السكاني بالتنمية. ومع غياب أي طرف خارجي يقدم معروفا للقارة، تظل رؤية نكروما حول المكاسب الممكنة عبر الاتحاد الفيدرالي أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.
*أستاذ الصحافة في جامعة كولومبيا.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز» 

Share it on