«عشش وأشلاء وثعابين».. حكايات الموت والفقر على قضبان السكة الحديد

almost 8 years in التحرير

تهتز الأرض من تحتهم، صريخ يشق هدأة الليل يفزع النائمين في حضن الخطر، تتسلل ثعابين من بين الشقوق والزراعات، ينهش الهواء البارد الأجساد النحيلة في الشتاء يجمد أطرافهم، بينما الصيف جحيم مستعر، في عشش مرصعة أسقفها بالثقوب وجدران من خشب واهن وصفيح يغطيه الصدأ،  يعيش بشر بين الحياة والموت في طريق مرور القطارات بعدة مناطق في حياة استثنائية وغير آدمية، ويدلل أطفال الأطراف المبتورة على مأساوية العيش وسط الخطر اليومي.. ما بين البؤس والمرض والفقر يتلمس هولاء طريقا للخروج إلى البراح والنوم، دون خوف من قادم يبث الرعب في قلوب صغارهم، "التحرير" عايشت حياة أطفال ونساء سكان عشش السكك الحديدية في النزهة والشرابية والبساتين، حيث تعكس القصص والحكايات واقعا لا يقبل التجميل ولا يحتمل التأجيل.. وإلى التفاصيل..

 

الدولة وقعت برتوكولا عام 2014، نص على التعاون بين التطوير الحضاري والتضامن، لتطوير المناطق العشوائية غير الآمنة الواقعة على الأراضي، تحت ولاية الهيئة القومية لسكك حديد مصر والتى أغلبها عشش، بل واعتبار الدعم المالي الذي يوفره صندوق تطوير المناطق العشوائية لتنفيذ أنشطة المشروع، بإجمالي تكلفة مقدارها ثلاثون مليون جنيه مصري، كدعم اجتماعي لا يرد، طبقا لأولويات وبرامج وزارة التطوير الحضاري والعشوائيات.

في أبو رجيلة كله مخالف

«أنا ساكن هنا من سنين، مش عارف عددها، بس مافيش حاجة اتغيرت، إحنا عايشين في حضن السكة الحديد واتعودنا على القطارات، بس الحوادث زادت قوي عن أيام زمان لما كانت الدنيا فاضية».. في رضا وقبول يحاول عادل فهمي، 56 سنة، من أقدم سكان منطقة أبو رجيلة بالنزهة الجديدة أن يتذكر بداياته في المنطقة.

وأضاف فهمي وهو يشير إلى عشة قريبة أنه قدم من الصعيد واستقر في المكان الحالي، وكيف أن وقتها كان كل شيء مقبولا «المنطقة كانت فاضية والحكومة كمان سابتنا نبني العشش»، لافتا إلى أن المنطقة غير ممهدة ولا تصلح لسير السيارات، مما يتسبب في وقوع كوارث، علاوة على وجود قطار (السويس- مصر "عين شمس") الذي يمر من وسط البيوت، ورغم مناشدة الأهالي للمسئولين مرارا بعمل مزلقان لاتقاء حوادث الطرق، فإن ذلك لم يحدث، وتم إغلاق المزلقان وقام الأهالي بفتحه مرة أخرى حتى تستطيع السيارات المرور إلى المنطقة.

 

 

ونوه عم فهمي بأن المنطقة بها عشش يسكنها أشخاص يعملون في فرز القمامة ونساؤهن يعملن في خبز العيش البيتي الفلاحي، وبيعه أمام محطات المترو، «بنوا عششهم على حرم أرض السكة الحديد ورشاح القمامة أبو رجيلة، رغم أن تلك المناطق تابعة للدولة ولا يجوز البناء عليها إلا أن كل شيء بالمنطقة مخالف»، مؤكدا أن القطار حينما يمر من وسط البيوت يزيد من وقوع الحوادث بسبب وجود العشش، ووصل الأمر إلى أن سائق القطار أصبح يتعامل مع هذه المحطة كما لو كان سائق ميكروباص.

وأشار المسن الذي قضى عمره  داخل ورشة نجارة إلى أن الأزمة لم تقف علي حوادث القطارات، إذ يعاني سكان المنطقة أيضا من وجود "رشاح قمامة كبير" وسط المناطق السكنية التي يقطنها الآلاف من المواطنين، و«الناس بترمي الزبالة والحيوانات الميتة في الرشاح اللي اتسد على الآخر والريحة بتموتنا بالبطيء»، متابعا «الدخان اللي طالع من حريق الزبالة كتم نفسي ومعظم الناس هنا عندها ربو وضيق تنفس بس ماحدش بيسأل في حد».

وبسؤاله عن موقف الدولة قال الحاج فهمي إنه سبق بالفعل حصر العشش السكنية وصدور قرارات إزالة للعشش قبل الثورة، والتي وصل عددها وقتها لنحو 700 عشة، من أجل توفير بدائل آمنة للسكان، ولكن الأمر توقف أكثر من مرة، لأن تنفيذ قرارات الإزالة مرتبط بالموافقة الأمنية، كذلك عدم وجود معدات كافية لإزالة المخالفات والتعديات، ولهذا السبب حتى الآن لم يتم تنفيذ قرارات الإزالة ومحاضر التعدي، ما أدي لتفاقم الأزمة وتزايد أعداد الأسر لتتعدى 3 آلاف أسرة.

ذراع جثة 
يحكي «أبو يوسف» أحد سكان عشش أبو رجيلة، عن مأساة ابنه الصغير بعد أن ساءت «نفسيته» من تعدد حوادث القطارات، ويتذكر مشهد ابنه وهو مفزوع، بعدما رأي حادث قطار يلتهم ذراع أحد الأشخاص، ولضيق ذات اليد وكثرة الأطفال لم يستطع تقديم العون الطبى له وعلاجه عند طبيب نفسى، وأصبح الفزع والوحدة صديقيه.

زوجتي تحت القطار
تتجدد المأساة كل شتاء فيقتحم الهواء غرفته كطلقات من الرصاص تصيبه بالمرض، هكذا وصف «حمدي»، معاناته مع ضيق التنفس نتيجة استنشاقه الروائح الكريهة المنبعثة من صرف المجارى أمام غرفته بعشش السكة الحديد بالبساتين.

وتابع صاحب الـ55 عاما: «الهيئة نادرا ما تيجى تعمل صيانة، والقطر بيطلع عن القضبان، والكشك ساعات بيبقى فاضى، لكننا عارفين مواعيد القطارات، خصوصا أنه ما بيعديش كتير»، مضيفا وقد قطع السعال حديثه: «ماحدش غريب يقدر يدخل المنطقة، و أى خطر للقطر هيبقى خطر علينا إحنا قبل أى حد، وماحدش فينا حمل أى كارثة، حتى حياتنا عايشينها على السلف من بعضنا، واللى ما بيخرجش على رجله يوم مش بيشوف الجنيه».

في مرارة يضيف: «زوجتي أول من دفع ضريبة الفقر عندما تعرضت لحادث قطار نجت منه بأعجوبة ولكنها فقدت رجلها اليسري، وأصبحت تلازم عشتنا ليل نهار، تنام وتجلس فوق بطانية من الصوف، تجلس عليها فى الصيف وتتخذها غطاء فى الشتاء».

حادث زوجته جعله يدخل في حالة بكاء قائلا: «إحنا مش عشوائيات إحنا ناس محترمة بس ظروفنا اللي عجزتنا، إحنا غلابة وأولى بشقق الإسكان بتاعة الدولة، ونترحم من العشش الشبيهة بالأوكار، ونظرة أصحاب الأبراج والعمارات لنا نظرة متدنية بسبب مسجلي الخطر الموجودين بالمنطقة، ولا يجرؤ أحد على تعديل سلوكياتهم، بعد أن استولوا على الأراضى بالبلطجة».

عشش المطاريد

بصوت حزين وظهر محني وعيون ملت من الانتظار، تقول الحاجة "مدنية" ذات الـ70 عاما إنه منذ أن وعيت على الدنيا ووالدها يسكن هذه العشة: «نحن جيران للقطار كنا نعيش فى الظلام ، دون كهرباء، وكانت حياتنا غير آدمية بالمرة ولا تزال»، واستكملت: «المنطقة المحيطة بحرم السكة الحديد كانت صحرا ومع الزمن العشش زادت قوي، ولأن الحكومة ماكناتش بتسأل البلطجة والهاربين من الأحكام واللي عاملين مصايب كله جه هنا وسكن».

تابعت العجوز: «مش كل سكان عشش البساتين وحشين فيهم ناس كتير كويسة، بس البلطجية والمجرمين هما اللي طلعوا سمعة وحشة على المنطقة»، وأنهت «مدنية»: "كنا صغارا نلهو حفاة القدم عراة الجسد، في الصحراء، كانت دورات المياه بدون أى جدران أو سقف يسترنا، وظللنا على حالنا هذا حتى الآن، فقد تزوجت فى نفس العشة، مثل إخوتى ثم انتقلت لأخرى مجاورة أصغر منها، حيث لم يعد هناك متسع للبناء من جديد».

باشوف عفريت بالليل
«صوت القطر بيخوفني» في براءة وصف الطفل "شريف"، 10 سنوات، حاله هو وأصدقائه الموجودة بمنطقة السكك الحديدية بالشرابية، وأضاف: «أنا نفسى أكون متفوق وشاطر بالمدرسة، ولكنى لا أستطيع أن أذاكر هنا، والوقت بيجرى لأن مدرستي بعيدة عن المسكن، وباروح المدرسة على رجلي من غير مواصلات»، تابع الطفل: «أنا وزمايلي بنرجع وباكون تعبت من المشوار وبانام ولما باصحي باروح ألعب شوية خارج العشش، ولما بافكر أذاكر صوت القطارات بيخوفني وبيخليني ماعرفش أعمل حاجة، لأني باترعب من هزة العشة لما القطر يمر، دا غير إن المكان مسكون بالعفاريت وساعات بنسمع صوتهم ونشوف خيالاتهم».

مهددون بالطرد 
«بنمشي خايفين نبص تحت رجيلنا حاسين إننا لازم هندوس على حاجة»، هكذا وصفت "ميادة" حالها داخل عشش الشرابية: «حالنا يصعب على الكافر، ومع ذلك نفسي ولادي يتعلمو ويعيشوا عيشة نضيفة» كانت تلك أمنيتها.

ميادة تعاني من أحوال سيئة للغاية فهي مريضة بالكبد، وتحتاج إلى علاج دائم بعدما أنجبت 5 أبناء، أكبرهم فى الصف الثالث الابتدائى، والبيت كله عبارة عن عشة فراخ ومهددين بالطرد: «إحنا عايشين عيشة الكلاب، الوضع هنا مايرضيش حد أبدا، لا نومة كويسة ولا ميه نظيفة، ولا صرف، ولا كهرباء، والمرض ينهش أجسام الناس كلها».

 

وأضافت: «لو كنا نقدر نسكن فى مكان تانى كنا خرجنا من نفسنا، على الأقل كنا هنترحم من الخوف والقلق اللى عايشين فيه»، وأشارت وهي تحمل طفلها الثاني في الترتيب، إلى أنها طوال 17 عاما، شاهدت بعينيها 5 حوادث لمواطنين زهقت أرواحهم تحت عجلات القطار أثناء عبورهم شريط السكة الحديد، وأكدت: «المخدرات بتتباع في عز الضهر، وكمان بنشوف المدمنين مع بنات الليل داخل التكاتك».

بنعالج الثعابين بالشيح
الحاجة فوزية، وجه آخر للمأساة في عشش سكة حديد الشرابية، لفتت إلى أن ابنتها أصيبت بأزمة نفسية بعد وفاة خطيبها تحت قضبان القطار: «مالحقتش تلبس فستان فرحها، ماعنديش فلوس، ولا حتة تلمنى، وتستر بناتى أحسن من هنا»، ولفتت العجوز: «بنحارب الثعابين والحشرات بالشيح، وعايشين وراضيين ولدغة الثعبان أرحم من تقطيعنا تحت القضبان».

 

قاومت دموعها قبل أن تضيف: «بناتي بيعترضوا على العيشة هنا، بس هنعمل إيه العين بصيرة والإيد قصيرة، كلنا بنخدم في البيوت ومش عيب إني أقول كده طالما باكل بشرف، بعدما فشلت جميع محاولات بناتي في ترك العشش ونقلنا إلى مكان آخر».

وتابعت: «بانام وعينيا مفتوحة، خايفة على ولادي  من العقارب والثعابين، التى كثيرا ما تتسبب فى انسداد مواسير الصرف الصحى وغرق العشش بمياه المجاري».

كشك صفيح
 تدهور به الحال بسبب زلزال عام 1992، سبق أن استقر الحاج فؤاد على، بالمنطقة على أمل أن يحيا حياة كريمة مع أسرته فى منزله بمنطقة بولاق أبو العلا، ثم هدم الزلزال منزله وشرد أسرته فى الشارع، ولم يجد مفرا من البحث عن مكان يأويهم، ولم يجد سوى الشقق المفروشة والتمليك مرتفعة الأسعار، وكانت تلك العشش بالشرابية هى الخيار الوحيد المتاح، أمامه، فلم يتردد فى ستر أسرته المكونة من 12 فردا حتى وإن كان داخل عشة من الصفيح تجاور السكة الحديد وإنشاء كشك صفيح لبيع بعض الحلويات للأطفال فى محاولة لسد احتياجات أسرته.

زلزال دائم
السيد عبد المتعال -يعمل فى جمع الخردة، 59 عاما، يقول: «أنا أقيم هنا فى عشش البساتين منذ أكثرمن خمسين عاما، دون مياه دون نظافة دون تعليم، ولا أحد يسأل فينا ولا ينظر إلينا، ولا لأولادنا كنا نأمل فى تربيتهم بطريقة أفضل، لكن قلة الحيلة هى التى تجعلنا مكتوفي الأيدى وعددنا كبير، وكل أسرة يزيد عددها على الـ6 أفراد».

واستطرد المسن: «وقت الشتاء كل شخص يدخل حجرته ويقفل على نفسه من البرد، ولكن في الصيف، جميع نسائنا ينامون داخل الغرف وجميع الرجال ينامون خارج الغرف التى نعيش بها».

ورفض عبد المتعال النظرة الدونية التي ينظرها لهم ساكنو الأبراج الفاخرة: «ناس كتير بتقول علينا عشوائيات، ولكننا أشرف من ناس كتيرة فى البلد والمسئولين والناس المرتاحة مايعرفوش غير ظلم الغلابة اللي زينا».

«حياتنا في جحيم مستمر، حيث نشعر بزلزال دائم نتيجة قيام القطارات بزلزلة العشش فوق رؤوسنا، لدرجة أن الجدار وقع أكثر من مرة وقمت بترميمه وحدث أكثر من حادث بسبب وقوع جدار على طفل من الأطفال وهى بتلعب»، هكذا اختتم الحاج عبد المتعال رافضا استكمال الحديث.

4 ملايين نسمة

من جهته قال الحسين حسان، مؤسس «حملة مين بيحب مصر» إن عدد سكان العشش الواقعة على خطوط السكة الحديد في مصر، يصل إلى 4 ملايين نسمة من إجمالي السكان، وفقا لآخر الإحصائيات، لافتا إلى أن الأمر يمثل كارثة حقيقية تهدد أي مجتمع، منوها بأن هناك الآلاف يسكنون العشش على مستوى جميع المحافظات فهم دائمًا في معاناة بحثا عن أدنى متطلبات الحياة الإنسانية من مأكل ومشرب وملبس وتعليم وصحة، مما يترتب عليه وجود بؤر للجريمة بكل ألوانها.

وطالب «حسان» الأجهزة الرقابية بمراجعة البروتوكول، الذى ينص على التعاون بين الوزارات لتطوير المناطق العشوائية غير الآمنة الواقعة على الأراضي تحت ولاية الهيئة القومية لسكك حديد مصر والتى أغلبها عشش، واعتبار الدعم المالي الذي يوفره صندوق تطوير المناطق العشوائية لتنفيذ أنشطة المشروع، دعما اجتماعيا لا يرد طبقًا لأولويات وبرامج وزارة التطوير الحضاري والعشوائيات.

Share it on