فنون العمارة بالسعديات.. حوار بين الأرض والإنسان

١٧ يوم فى الإتحاد

فاطمة عطفة «في جزيرة السعديات، لا تشيد المتاحف فحسب، بل تُبْنَى سرديات حضارية تتقاطع فيها العمارة بالثقافة، والهوية بالكونية. بين اللوفر أبوظبي، ومتحف التاريخ الطبيعي، ومتحف زايد الوطني، وجوجنهايم، تتشكّل خريطة ثقافية طموحة»، هذه الكلمات التي جاءت على لسان المهندسة هنادي الصلح، تكثّف المعنى وتضيء على ما تمثله المنطقة الثقافية بجزيرة السعديات بأبوظبي، باعتبارها مركزاً ثقافياً عالمياً؛ وحسب ما يشير إليه موقعها الإلكتروني الرسمي، فإنها «من موقعها المتميز في قلب جزيرة السعديات، الذي يبعد دقائق قليلة عن المدينة، تتيح المنطقة الثقافية في السعديات لزوّارها تجربة رحلة منظمة للتاريخ العالمي والثقافة الجماعية من خلال سرد متنوع ومبتكر». على جانب آخر تجسد عمارة المتاحف في المنطقة الثقافية إبداعاً يجمع بين الأصالة والحداثة، وتعكس في تنوعها وبنائها مدارس هندسية وخبرات عالمية بارزة استطاعت أن تستلهم التراث المحلي وتقدم مفاهيم هندسية استثنائية ترتبط بالمكان وتاريخه وتراثه.

وتضيف المهندسة هنادي الصلح: «في جزيرة السعديات، لا تشيد المتاحف فحسب، بل تبنى سرديات حضارية تتقاطع فيها العمارة بالثقافة، والهوية بالكونية، حيث المعمار يخاطب الروح، ويستدعي جوهر اللقاء الإنساني الشامل والمتنوع. ومتحف الشيخ زايد يلامس أعماقي، حيث يتماهى مع الصحراء ككائن حي، يحاكيها بأجنحة صقر ترمز إلى العلو والرؤية، وترمز إلى الأب المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه»، مشيرة إلى أن الضوء، الظل، الامتداد، هذه كلها عناصر تتآلف مع الذاكرة والهوية، فتولد عمارة لا تستعرض، بل تنصت وتحتضن. من هنا، تبدو السعديات بالنسبة لي أكثر من مشروع عمراني. إنها بيان حضاري عن دور الإمارات في بناء بيئة حاضنة للفكر والثقافة، لا تقصي المجتمع بل تشركه. هي مساحة تشكّلت لتنتج الثقافة لا لتستهلكها، ومتاحف بُنيت لتنبت الحوار لا لتحنطه، فالمتاحف مشاريع تشرك الناس، وتلك هي القيمة الحقيقية: أن تصبح العمارة حواراً حيّاً بين الأرض والإنسان، بين الرؤية والإرث، بين الذاكرة والمستقبل، وبين الفن والثقافة.

حضور عالميمن جانبه يقول المهندس المعماري والشاعر الإماراتي أحمد بالحمر: «وجود أسماء عالمية وراء هذه الصروح هو بحد ذاته حضور عالمي، وترسيخ لمدينة أبوظبي كجهة ثقافية ومحط أنظار المعماريين حول العالم: جيري وفوستر ونوفيل وسير ديفيد، هؤلاء الذين وضعوا تصاميم هذه الصروح في أرض السعديات، وها نحن نستظل بظل هذه المباني التي صنعت الظلال وغطت أشعة الشمس الساطعة».ويرى المهندس بالحمر أن السعديات ستكون محط أنظار العالم من جميع الأصعدة السياحية والثقافية والمعمارية بكل تأكيد، مبيناً أن هذه الصروح وضعت أبوظبي كمدينة حاضنة للمعمار الحديث وللأفكار الإبداعية الخارجة عن المألوف، ووجود أسماء عالمية كآباء روحيين لهذه الصروح، هو بحد ذاته حضور عالمي وترسيخ لمدينة أبوظبي كجهة ومحط أنظار كبار المعماريين حول العالم، مؤكداً أن السعديات ستكون محط أنظار العالم من جميع الأصعدة السياحية والثقافية والمعمارية بكل تأكيد. ويتابع المهندس أحمد بالحمر حديثه مؤكداً أن هذه الصروح وضعت أبوظبي كمدينة حاضنة للمعمار الحديث وللأفكار الإبداعية الخارجة عن المألوف، إنها قمة فنية عائمة في متحف اللوفر على سطح البحر، تتخللها أشعة الشمس وتحتضن أمواج الخليج العربي، وهي ميناء للفن تستقبل كل الفنون من كل أنحاء العالم، وقبة تستقبل النور من كل اتجاه وتستغل كل لحظة من شروق شمسها في أبوظبي حتى المغيب.ويضيف: «أما أجنحة الصقور في متحف زايد الوطني، فكأنها تحمل المتحف ليحلّق إلى السماء ويراه العالم، وكذلك التصميم المتسامح في «البيت الإبراهيمي» الذي يعكس البساطة والوضوح والتآلف مع جميع الأديان، كما يعكس التسامح الإنساني السامي بين جميع البشر والأديان. أما متحف جوجنهايم فهو تصميم فريد من نوعه»، مؤكداً أن جميع المتاحف والمباني الثقافية تحف وصروح رائعة ترسم خط الأفق في مدينة أبوظبي والإمارات.

نبض حيمن جهتها تقول المهندسة رنيم معمار، مديرة مشاريع وبنى تحتية في دبي ونيوزيلاندا: «في أبوظبي، حيث يلتقي الرمل بالضوء والنخيل، تنبثق السعديات كجزيرة لا تشبه سواها لأن العمارة فيها تتكلم لغة الثقافة، حيث تشيَّد المباني لتروي حكايات وتفتح نوافذ على ثقافاتٍ تتعانق، كما تتعانق أمواج الخليج العربي. في السعديات، لا ينظر إلى العمارة كمادة صلبة، بل كنبضٍ حيّ، وكائن ثقافيّ يروي سيرة شعبٍ يصنع مستقبله بيد، ويحفظ ذاكرته باليد الأخرى».وتضيف المهندسة رنيم أن فن العمارة في السعديات هوية تتنفس، وفي قلب هذه الجزيرة، ترتفع المتاحف كمنارات شامخة، وكأن كل حجرٍ فيها يعرف موقعه من الرواية. فالعمارة هنا ليست زخرفاً ولا مجرد تجريب في الشكل، بل هي حالة ثقافية، تقف شاهدة على طموح حضاري يراد له أن يتجاوز الجغرافيا. فقبة اللوفر أبوظبي، على سبيل المثال، ليست قبة فحسب، بل سماء ثانية ترسل عبر ثقوبها ضوءاً» يتساقط كقطرات معرفة. أما أجنحة متحف زايد الوطني فتمتد كأذرع صقرٍ يعلو بالأحلام، شاهدة على إرث قائد أسس وطناً، وحلم بمستقبل يعانق السحاب.وترى رنيم أن التصاميم المعمارية في السعديات ليست معزولة عن مضمونها، بل ترتبط به كما يرتبط الشعر بإيقاعه. كل شكل فيها يعبّر عن رسالة، يحمل دلالة، ويسهِم في بناء التجربة الذهنية والحسيّة للزائر. أما متحف جوجنهايم في أبوظبي الذي لا يزال قيد الإنشاء، فهو لا يقدم فقط شكلاً معمارياً متفرداً، بل يجسّد الفكرة ذاتها التي يقوم عليها المتحف وهي التحرر من القوالب، والانفتاح على الممكن الفني اللامحدود، مبينة أن البيئة شريك خفي في فن البناء. وفي أبوظبي، هذه المدينة الساحرة، حيث الشمس سيدة السماء، كان لابد للعمارة أن تصغي إلى الطبيعة، لا أن تعاندها، فجاءت التصاميم في السعديات متصالحة مع المناخ، تحتمي بالظل، وتستثمر الضوء، وتستخدم الهواء لا كمجرد عنصر، بل كصوتٍ في سيمفونية المكان، مشيرة إلى أن قبة اللوفر مثلاً، تلطف حرارة الشمس وتحولها إلى نورٍ طري، كأنها تنسج من القسوة جمالاً، ومن الطبيعة حليفاً معمارياً. وهكذا، يتبدى أن احترام البيئة هنا ليس خياراً هندسياً، بل قيمة جمالية وأخلاقية.وتؤكد المهندسة رنيم معمار أن السعديات منارة الحاضر وأفق المستقبل، وهي اليوم تقف شامخةً، ليس فقط بما تملكه من متاحف ومراكز ثقافية، بل بما تقدمه من رؤية مختلفة للعالم. إنها دعوة للحوار، وجسر بين الثقافات، ومساحة للالتقاء بين الشرق والغرب. ومستقبلاً، تطل السعديات كمركزٍ لا يكتفي بعرض الفن، بل ينتجه، يناقشه، ويحتضنه، لتغدو بذلك منصة فكرية وإنسانية، تنافس المدن العالمية الكبرى، لا بعدد الأبراج، بل بعمق الفكرة وصدق الرؤية.وتختم المهندسة رنيم معمار أن فن العمارة في السعديات ليس صمتاً من حجر، بل حديث من نورٍ وظلال، يحمل بين طياته رسائل عن الهوية، والبيئة، والتاريخ، والمستقبل. إنها أرض تُبنى فيها الثقافة كما تُبنى البيوت: أساس من حلم، وجدران من فكر، وسقف من أمل. وهكذا، تظل السعديات شاهدة على كيف يمكن للمعمار أن يتحول إلى نص سردي مفتوح، تقرؤه العيون، وتحفظه الذاكرة.

الباحث الرئيسي سلطان الربيعي، رئيس معهد تريندز الدولي للتدريب، يشير إلى روعة التصميم في عمارة المتاحف قائلاً: «تشكّل المنطقة الثقافية السعديات في أبوظبي نموذجاً فريداً لحضور العمارة كحالة ثقافية تتجاوز الجانب الجمالي، لتعبّر عن هوية حضارية ورؤية استشرافية؛ فتصاميم المتاحف كمتحف اللوفر أبوظبي تجسّد اندماجاً بين الحداثة وروح المكان، حيث تعكس اللغة المعمارية قيما إنسانية وتاريخية تنسجم مع رسالة المتحف الثقافية».وحول علاقة الشكل المعماري بالمضمون، يبين أن الشكل المعماري للمتاحف في السعديات ليس مجرد غلاف جمالي، بل يحمل دلالات وظيفية وثقافية. فتصميم قبة اللوفر بأشعتها المتناثرة يرمز إلى التسامح والانفتاح، بينما يخدم في الوقت ذاته وظيفة التحكم بالضوء الطبيعي، ما يعزّز من تجربة الزائر.ويرى الربيعي أن التصاميم المعمارية في السعديات تراعي الجوانب البيئية من خلال استخدام المواد المستدامة، وتقنيات التهوية الطبيعية، والإضاءة الذكية، وتوازن بذلك بين الاستدامة والمتطلبات الوظيفية والثقافية للمتحف. يؤكد أن السعديات اليوم تشكل محوراً عالميا للثقافة والفن، وستستمر في لعب هذا الدور مستقبلاً، بفضل استراتيجياتها الثقافية التي توازن بين المحلية والعالمية، ما يجعلها منبراً للحوار الحضاري ومركز إشعاع ثقافي.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على