أكثر من مجرد اتفاق تجاري

٤ أشهر فى الإتحاد

منذ بداية ولاية الرئيس دونالد ترامب الثانية، استعدّ الاتحاد الأوروبي لما يعتبره معركةً وجودية حاسمة، أي الدفاع عن القواعد والمؤسسات التي جلبت الاستقرار والازدهار لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكنه خسر مؤخراً إحدى أكبر المواجهات حتى الآن.
والسؤال المطروح: هل كان ذلك استسلاماً بلا جدوى، أم مطلباً مريراً لإعادة ضبط تحالفٍ بالغ الأهمية؟ في اتفاق تجاري جديد، وافق الاتحاد الأوروبي على فرض تعرفة جمركية بنسبة 15% على العديد من صادراته إلى الولايات المتحدة. ويقول الخبراء إن الاتفاق يعد صفقة سيئةً لأوروبا، رغم أن تأثيره قد لا يكون قاسياً للغاية. لكنه في الواقع، أكثر من مجرد اتفاق تجاري. قبل أشهر، كان دعم ترامب لأوكرانيا فاتراً، وكان يتحدث عن الاتحاد الأوروبي بازدراء واضح. كان التحالف يقترب بسرعة من أن يصبح خصومة.
وبموافقتهم على الاتفاق التجاري، يبدو أن قادة الاتحاد الأوروبي يرون أنهم اجتازوا هذه المرحلة، معتبرين الصفقةَ ضريبةً مقابل علاقات جيدة: أمر مؤسف، لكنه ضروري. لكن ما الثمن؟ بالنسبة للعديد من الأوروبيين، ربما الخسارة الأكبر هي في تآكل شعور القارة بقيمتها الذاتية. فقد استغل ترامب حالةَ عدم اليقين والقوة المجردة لتعزيز رؤيته للمصلحة الأميركية، ولم يفعل الاتحاد الأوروبي شيئاً لإيقافه. وبالطبع، ليست أوروبا وحدها، فهناك موجة من الرسوم الجمركية الأميركية ستدخل حيز التنفيذ في غضون الأيام القليلة القادمة، لذا تسعى العديد من الدول إلى التفاوض على شروط أفضل.
وعلى سبيل المثال، أبرمت كل من اليابان وفيتنام مؤخراً صفقات مماثلة. لكن أوروبا كانت تعتقد دائماً أنها تستعد للمواجهة. وعندما كانت العلاقات مع الولايات المتحدة في أسوأ حالاتها، كانت التصريحات العلنية للاتحاد الأوروبي تتسم بالثقة، بل والتحدي. أما الآن، فهناك شعور بالخذلان، بأن التحالف مع الولايات المتحدة يأتي مصحوباً بالإذلال. من الصعب الحكم على العواقب الفورية. فأوروبا لن تقبل بأساليب الترهيب الأميركية، لكنها تفتقر إلى وسائل ضغط فعّالة. العواقب على المدى الطويل أوضح.
تكامل أوروبا المستمر منذ عقود مع الولايات المتحدة، بل وحتى الاعتماد عليها، يُستغل الآن ضد القارة كورقة مساومة. ويزداد حرص قادة أوروبا على إنهاء هذا الوضع. يقول «أَسلاك بيرج»، من مركز الإصلاح الأوروبي في لندن: «كان هناك تصور ذاتي بأن الاتحاد الأوروبي قوة كبرى يمكنها مجاراة الولايات المتحدة، وكان ذلك صحيحاً في مواقف سابقة. لكن الولايات المتحدة لم تعد تلتزم بالقواعد».
ويقصد بيرج بـ «القواعد» اثنين من المبادئ الأساسية لمنظمة التجارة العالمية: أولاً، أن تُفرض الرسوم الجمركية فقط في ظل ظروف محددة.. وثانياً، أنه ما لم تكن هناك اتفاقية تجارة حرة بين بلدين، فيجب معاملتهما جميعاً بالتساوي. وتهدف هذه القواعد إلى الحفاظ على التوقعات والعدالة، لكن ترامب تجاهلها تماماً. ويقول ترامب إن الولايات المتحدة تحاول فقط إعادة التوازن لعلاقات تجارية يعتبرها غير عادلة، لكن تكتيكاته أعطت الولايات المتحدة ميزة واضحة. يقول بيرج: «يمكنك استخدام الوصول إلى السوق الأميركية كأداة».
وسيلة الردّ الأوروبية الوحيدة المهمة هي «أداة مكافحة الإكراه»، المعروفة باسم «المدفعية التجارية». تمنح هذه الأداة الاتحاد الأوروبي صلاحيات واسعة لفرض رسوم جمركية ضخمة رداً على أنشطة اقتصادية يُنظر إليها على أنها قسرية.
في الأسبوع الماضي، رأى المستشار الألماني فريدريش ميرتس أنه على الاتحاد الأوروبي «النظر في استخدام» هذه الأداة. لكن حتى مع وجود «المدفعية التجارية»، فإن دول الاتحاد الأوروبي تجد صعوبة في التوصل إلى توافق. فقد أصيبت فرنسا، وهي من أشد منتقدي الاتفاق الجديد، بالذعر عندما اقترح الاتحاد الأوروبي رفع الرسوم على بعض السلع الأميركية. كما تمثل صناعات وأذواق الدول الأخرى عوامل انقسام مماثلة قد تعيق العمل الأوروبي الموحد. وربما الأهم من كل ذلك هو العوامل غير الاقتصادية التي شكلت رد الفعل الأوروبي الباهت.
إذ ربطت إدارة ترامب، بشكل غير تقليدي، بين السياسة التجارية والسياسة الأمنية. وأحس الأوروبيون أنهم مضطرون لقبول الرسوم الجمركية خشية فقدان الدعم الأميركي لأوكرانيا. يقول «أندرياس باور»، الخبير في مركز «إيفو» للاقتصاد الدولي في ميونيخ: «الاتفاق يُظهر ميزان القوى الحالي، خاصة على صعيد الدفاع. المسألة تتعلق بالحاجة إلى الولايات المتحدة لضمان الأمن». وبصورة أوسع، تغيرت نظرة ترامب تجاه الاتحاد الأوروبي.
فقد بدا مشهد ترامب وهو يجلس إلى جانب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قبل أيام من الآن، مشهداً لا يمكن تخيله قبل شهور. يقول أندرو سمول، محلل في صندوق مارشال الألماني: «كان هناك عداء واضح تجاه الاتحاد الأوروبي والديمقراطية الليبرالية». أما الشروط السيئة للصفقة، فيرى سمول أنها «ثمن من أجل إعادة العلاقة عبر الأطلسي إلى حيث يجب أن تكون». وتسعى أوروبا لتجنّب تكرار هذا الوضع مستقبلاً.
ويبدأ ذلك بإنفاق دفاعي تاريخي جديد. لكنه يشمل أيضاً جهودَ الاتحاد الأوروبي لتوسيع اتفاقاته التجارية مع مناطق مثل أميركا الجنوبية والهند. وفي أحد السيناريوهات، يقول باور من مركز «إيفو»: «يرى الاتحاد الأوروبي في هذه اللحظة المريرة دافعاً نحو المزيد من الاستقلالية، مما يجعله شريكاً أفضل». لكنه يخشى أن تترك سنوات العداء أثراً دائماً.
ويضيف: «الجانب السلبي هو أن الثقة طويلة الأمد في الولايات المتحدة قد تضررت بشدة. سيتذكر الجيل القادم من القادة الأوروبيين هذه المواقف». ومع ذلك، يقول إن هناك استنتاجاً واحداً لا مفر منه، ويمنح بعض الأمل: «لا بديل عن تحالف قوي عبر الأطلسي».
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»
مارك سابينفيلد*
*صحفي لدى «كريستيان ساينس مونيتور»

شارك الخبر على