الذكاء الاصطناعي والعقل النقدي.. تكامل أم إحلال؟

about 1 month in الإتحاد

في عالمنا المعاصر نواجه تدفقاً من المعرفة والمعلومات والأخبار عبر وسائل الإعلام التقليدية، ومنصات التواصل الاجتماعي. كما نواجه واقعاً معقداً في أبعاده المجتمعية والإنسانية والثقافية. كل ذلك يجعلنا نؤمن أن العصر الحديث يحتاج عقلاً قادراً على مواجهة تلك الحقائق ليس من باب الصراع، ولكن من بوابة الوعي والتماهي مع معطيات هذه التحولات الحداثية.
هنا ندرك أن العقل الناقد هو شراعنا للإبحار وسط هذا الواقع المعاصر في سلاسة وأمان، وأن تربية الأجيال الناشئة عليه لم تعد ترفاً، بل صارت حتمية تقربنا من الالتحام الحقيقي مع قطار الحضارة الإنسانية الحديثة. عرّف جون ديوي التفكير النقدي الذي سماه في حينها التفكير التأملي في كتابه كيف نفكر؟ أنه (إمعان النظر الدؤوب والمستمر والدقيق لأي معتقد أو شكل مفترض من أشكال المعرفة، في ضوء المسوغات التي تدعمه والاستنتاجات الإضافية التي يفضي إليها)، وهنا يميز جون ديوي بين التفكير النمطي والتفكير النقدي الذي يتسم بالعمق والتحليل ثم الاستنتاج. هناك العديد من التعريفات الأخرى للتفكير النقدي، والتي لا تختلف كثيراً مدلولاتها الأساسية عن تعريف جون ديوي.
يمكننا القول إن التفكير النقدي لا يجعل العقل مجرد تابع لسيل الأفكار والمعارف التي يتعرض لها، بل يمتلك شخصيته الواعية القادرة على التحليل المنطقي وتفكيك الأفكار، وإعادة تركيبها طبقاً للنمط الثقافي الذي يكون مفاهيمه، ثم يعمل على الاستنتاج، وتكوين رؤية خاصة به نحو ما يتعرض له من فكر ومعرفة. يتطلب التفكير النقدي أن يكون الإنسان واعياً بذاته، وقادراً على النقد الذاتي، وعلى التحليل المنطقي والاستدلال وعلى فهم السياق الذي تأتي فيه الأفكار، ويمتلك الإرادة الكافية لإعادة التموضع في حال أسفر النقد الذاتي عن إدراك خطأ ما في أفكاره، ثم تعديل مخرجات عملية التفكير الناقد التي مارسها. في السنوات الأخيرة نمت قدرات الذكاء الاصطناعي، وأصبح ذا قدرات فائقة اعتمد عليه الكثير من البشر في تحقيق ما لم يكونوا قادرين على تحقيقه عبر قدرات العقل البشري في التحليل والحسابات الخوارزمية.
وهنا يبرز السؤال المحوري المهم: هل الذكاء الاصطناعي يمتلك عقلاً نقدياً؟ لكي نجد الإجابة يجب أن نفهم آلية عمل الذكاء الاصطناعي الذي يمتلك قدرات فائقة تعتمد على منظومة خوارزميات معقدة، ويستند إلى التعلم المعزز، من خلال التعامل الفائق السرعة والدقة مع التعليمات والمدخلات التي يُغذى بها، وكما أن لديه قدرة على تحليل البيانات وبناء الاستنتاجات ومحاكاة الأنماط، لكن يظل بلا قدرة على الوعي بذاته ولا بناء منظومة أخلاقية ولا التأمل الوجودي ولا النقد الذاتي ولا الشعور بالمسؤولية، وكل تلك الآليات هي جزء رئيس من التفكير النقدي للإنسان، بالتالي يمكننا أن نستنج أن الذكاء الاصطناعي يمتلك فكراً نقدياً إلى حد ما، لكنه لا يرتقي لمستواه البشري.
الإشكالية التي أخشى أن نصل إليها هي أن تصل البشرية إلى مرحلة الاتكاء الكامل على قدرات الذكاء الاصطناعي، وهذا سوف يعطل قدرات العقل البشري، ويخلق أجيال اتكالية فكرياً وإبداعياً لذلك يجب أن نراهن على المناهج التعليمية والمنظومة التربوية والمعرفية في بناء وعي الأجيال القادمة بأن الذكاء الاصطناعي يقدم منفعة عظيمة في اختصار الزمن اللازم لإنتاج الاحتمالات وتحليل البيانات، لكن لا يمكن أن نتكئ عليه في الإبداع الإنساني وأعمال العقل النقدي بصورته البشرية التي تحكمها منظومة أخلاقية وقدرة على النقد الذاتي وإعادة تنظيم الرؤية بصورة ذاتية.
إن معطيات الوقت الراهن تلقي علينا مسؤولية كبيرة ليست فقط في تنشئة الأجيال القادمة على العقل النقدي، وتعزيز قدراتهم في ذلك، بل لا بد أن يصاحبها وعي بمفهوم التكامل ما بين العقل البشري والذكاء الاصطناعي، وأن العلاقة ليست قائمة على إحلال للعقل البشري وتعطيل لقدارته. نقف على حدود نقلة حضارية عظيمة في تاريخ البشرية مع تطور قدرات الذكاء الاصطناعي المذهلة والمتسارعة، ولكن يبقى الوعي الإنساني القادر على النقد الذاتي، وتصحيح المسار وخلق منظومة أخلاقية حاكمة لتصوراته وعلاقته مع العالم هو ميزان الحضارة الحقيقي. فالحضارات كلها قامت على أعمدة العلم والقيم الروحية والمنظومة الأخلاقية في علاقة تكاملية متقنة البنيان. في الختام، أدعوكم إلى تأمل كلمة قرأتها في إحدى صفحات التواصل الاجتماعي، وساعدني الذكاء الاصطناعي في أن أعرف أنها للصحفي الأميركي سيدني هاريس قال فيها: (الخطر الحقيقي ليس في أن تفكر الحواسيب، بل في أن يفكر البشر مثل الحواسيب)
*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي، أستاذ زائر بكليات التقنية العليا للطالبات، أستاذ زائر بجامعة الإمارات العربية المتحدة.

Mentioned in this news
Share it on