التأويل.. الضرورة والمخاطر
3 months in الإتحاد
للتأويل مكانة كبيرة في الثقافة الإسلامية على جميع مستوياتها، فلم يخلُ حقل إسلامي من حضور هذا الإكسير، الذي يدخل إلى الأفكار فيحولها بقوة وينقلها من سياق إلى سياق، وقد يكون هذا النقل منسجماً مع النص وسياقه، مفيداً في توسيع المدارك، وقد يتّسم التأويل بكثير من التخبط، فيفسد على الفكر الفهم ويعود على الجماعة بالتمزق، ومن هنا خطورة التأويل في تاريخ ثقافتنا الإسلامية، مما حدا بالغزالي وأبي بكر المعافري وفيلسوفنا ابن رشد إلى الحديث عن قانون التأويل، رسماً للحدود في قراءة النصوص، خيفة أن يلحق الشرع تمزقاً والجماعة فرقة وشتاتاً.يؤسس الغزالي القول بالتأويل على ما يوجد بين المعقول والمنقول من تصادم في أوَّل النظر، وظاهر الفكر، كما يقول، ويرى أن الخائضين في ذلك «تحزبوا إلى مفرِّط بتجريد النظر إلى المنقول، وإلى مفرِّط بتجريد النظر إلى المعقول، وإلى متوسط طمع في الجمع والتلفيق». فانقسم الناس حول تأييد المعقول والمنقول إلى فرق خمسة: فرقة تعتمد النقل وترفض العقل، وهي فرقة طلبت السلامة من خطر التأويل كما قال الغزالي. وفرقة اعتمدت العقل ورفضت النقل:، ولم تكترث به، فضلّوا وأضلّوا. وفرقة ثالثة جعلت العقل أصلاً حاكماً على النقل، حيث إنه ما «شقّ عليهم تأويله جحدوه حذراً من الإبعاد في التأويل»، ويرى الغزالي خطر هذا الرأي في «ردّ الأحاديث الصحيحة المنقولة عن الثقات الذين بهم وصل الشرع إلينا». وفرقة رابعة جعلوا النقل أصلاً، فلم ينتبهوا في أمور كثيرة إلى الحاجة إلى التأويل، وفرقة خامسة اعتمدت النقل والعقل معاً.ويعتقد الغزالي أنها «هي الفرقة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول، الجاعلة كل واحدٍ منهما أصلاً مهماً، وهم الفرقة المنكرة لتعارض العقل والشرع وكونه حقاً، ومن كذّب العقل فقد كذّب الشرع، إذ بالعقل عُرف صدقُ الشرع، وهؤلاء هم الفرقة المحقة عند الغزالي والذين وضع لهم قانونه للتأويل حتى يظلوا على المهيع الوسط، من هذه القوانين: أن يلجم العالم جموحه المعرفي، فلا يعتقد أنه يمكن أن يطلّع على كل مراد شرعي. وأن يمتنع عن تكذيب برهان العقل «فإن العقل لا يكذب» عنده، و«أن يكفَّ عن تعيين التأويل عند تعارض الاحتمالات»، إذ «التوقف في التّأويل أسلم».وكتب ابن العربي المعافري، تلميذ الغزالي، كتاباً في «قانون التأويل»، جعله «قانوناً.. لعموم آي التنزيل»، كما قال، من أجل رسم طرق محكمة في تفسير القرآن الكريم، حتى يعصم طلاب العلم في عصره من الوقوع في شرك التأويلات الممزقة للشريعة الأولى.وقد كان هذا هو المشروع الذي نذر له ابن رشد كتاب «مناهج الأدلة»، متابعاً في ذلك سُنّن الغزالي والمعافري، واضعاً قواعد منهجية لتفسير القرآن الكريم، حاملاً بشدّة على المتكلمين من أهل ملة الإسلام الذي ذهبوا في تأويل آيات القرآن طرائق قدداً، حتى خرجوا عن الشريعة الأولى، التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، داعياً طلاب العلم وعلماءه إلى الالتزام بالتأويل، كما حدّه باعتباره «إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه، أو سببه، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عودت في تعريف أصناف الكلام المجازي»، فبالالتزام بهذه القواعد التي وضعها هؤلاء العلماء يكون التأويل برداً وسلاماً على النّصوص وعلى الجماعة المسلمة، مانعاً من التفرق المشين والصرّاع الذميم.*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.