د. عبدالله الغذامي يكتب أن تختار التدريس أو يختارك التدريس

حوالي شهران فى الإتحاد

في يونيو 1969، حصل الشيخ عبد الله الغذامي على ليسانس اللغة العربية، أقول هذا لأن شهادتنا في ذلك الوقت تسمى (ليسانس) وصفة المتخرج هي (الشيخ)، وهذه مفارقة بين العجمة والتراثية، وكنا نسخر من تجاور الضدين بين كلمةٍ أصلها فرنسي، وصفة كانت تغلب على خريجي كلية الشريعة، ولكنها شملتنا نحن طلبة كلية اللغة العربية، ومن هنا «تمشيختُ» دون مشيخة، وصرنا كلنا مشائخ حسب ورقة التخرج. ولم يخطر ببالي أنني سأنتهي لتحقيق هذه الضدية بين تراثيّ تربى على كتب التراث منذ صغره مع هوى ظل يلازمني في توجهات حداثية انتهت بأن أكون حداثياً رسمياً بخياري (ومارقاً بخيارات موجة الصحوة حين هيمنتها على الفضاء العام في فترة الثمانينيات والتسعينيات).وأول ثمار شهادتي تلك، كانت تعييني مدرساً في الكلية الحربية في الرياض، لتدريس مواد اللغة العربية، وكم كنت مرتاحاً مع الطلبة الذين هم عسكر تحت الإعداد، وكانت عسكريتهم تنعكس على سلوكهم في قاعة الدرس في الانضباط والدقة، والضبط والربط الذي هو شعار مكتوب على مدخل وزارة الدفاع (الضبط والربط عنوان العسكرية)، ورأيت ذلك في الطلبة في الكلية من حيث لباسهم العسكري، وجديتهم في تقبل الدرس، والتزام أداء التكليف من واجبات الدرس، غير أن سعادتي تلك لم تستمر، إذ بعد شهرين هاتفني مدير الثقافة والتعليم ليخبرني بصدور أمرٍ بتعييني مديراً لمدرسة الأبناء، أي أبناء الضباط. ولم أجد وسيلة للاعتذار، لأن المدير لبس كلامه بدعوى أن هذا توجيهٌ من الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع (آنذاك)، ولم أعلم حينها أن الأمر لم يكن كما ذكر المدير، فالأمير، رحمه الله، لم يخصني شخصياً بهذا التكليف، وكان يكفي تعيين أي زميل من مجموعتنا، ولو علمت بذلك حينها لما اخترت بديلاً عن طلبة الكلية الحربية وانضباطهم وأدبهم الجم، إضافةً لجهلي بفن الإدارة، وعدم خبرتي، لاسيما أن أساتذة المدرسة حينها يكبرونني، وكأنهم بمقام والدي من حيث السن والخبرة، وكنت حينها حيياً ومتربياً على تقدير من هم أكبر سناً، وهذا ضاعف همومي، وقد أمضيت سنتين في نوع من الجحيم بسبب وظيفة لست ميالاً لها، وكل عمري ظللت أنفر من المناصب تفضيلاً مني للتدريس، وهو متعتي وسر مهارتي وهوايتي، ولكن جاءني الإنقاذ حين سنحت لي فرصة الحصول على منحة دراسية من جامعة الملك عبد العزيز بجدة (الأهلية حينها)، وذلك للبعثة إلى بريطانيا لدراسة الدكتوراه، وتم هذا وتخرجت عام 1978 دون لقب الشيخ هذه المرة، وتعززت عندي توجهاتي الحداثية مع ولائي للتراث بوصفه مرجعية مكينة في تكويني وفي مصادر بحوثي، على أن الدكتوراه حسمت خياراتي لأكون في التعليم الذي هو هوى نفسي وعقلي معاً، وعبر هذا التحول الجذري في حياتي، انعتقت من المناصب، وظللت أنفر منها، وعشت لكتبي وبحوثي، وحسبي أن أكون تلميذاً مؤبداً ومعلماً مؤبداً كذلك.كاتب ومفكر سعوديأستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض

شارك الخبر على