التعليم الفلسفي عند ابن طفيل
٤ أشهر فى الإتحاد
قصة حي بن يقظان وآسال وسالمان لابن طفيل دشّنت الرواية الفلسفية بالمعنى المعاصر، فقد استطاع فيلسوفنا، أن يلخص مجمل الفلسفة الإسلامية في ورقات أمتعت، وأفادت عبر تاريخ الفلسفة، وخلّدت اسمها بكثرة الترجمات التي عرفتها حتى أصبحت نصاً روائياً عالمياً.
تقدّم هذه الرواية الفلسفية كثيراً من القضايا الفلسفية والعلمية، التي لا يزال القول فيها لم ينفذ مدادُه، لكني أحبُّ هنا أن أُعرِّج على قضية التعليم الفلسفي في هذا النص العجيب متابعة لما سبق الحديث عنه بقول عام عن المنهج الفلسفي. من غرائب ترجمة هذا النّص الفلسفي، أن ترجمته إلى اللغة اللاتينية، والتي قام بها إدوارد بوكوك سنة 1671 اختار لها عنوان «الفيلسوف المعلم ذاته» إشارة إلى أن التّعليم الفلسفي في القصة هو جهد فردي عصامي لا يمت بسبب إلى دوائر التعليم المعروفة، فبطل القصة «حي بن يقظان»، موظِّفاً أدواته المعرفية حسية كانت أم عقلية أم حدسية أم ذوقية كان يكتشف أسرار الوجود دون مرجعية تعليمية قَبْلِيَة، أو تقليد اجتماعي سابق، فقد كان مصدره الأوحد للمعرفة ذاتُه بنورها الطبيعي، ذي الملكات المعرفية العليا والدّنيا. بل إن ابن طفيل ذاته، وهو يوجه رسالته إلى أخيه المفترض إسعافه، في نص جميل جداً وطريف، يدعوه إلى الاستغناء بمعرفته عن معرفة مُعلِّمه، وأن يوظِّف تجربته الشخصية الخاصّة في كسب معرفته الذاتية، لأن التّقليد في المعرفة لا يُنْشئ فيلسوفاً ولا مُفكِّراً.
يقتضي التعليم الفلسفي إذن شخصية مستقلة، همّها البحث والحوار مع الكائنات، وهو الحوار الذي يتطلب الاهتمام بالأثافي الثّلاث لكل تفكير فلسفي: الأشكلة، والمفهمة، والحِجاج. تطالعنا قصة حي بن يقظان بكثير من الإشكالات التي أمضّت عقل الفيلسوف الصغير، بداية بإشكال الموت، إلى إشكال المادة والصورة، إلى إشكال الوحدة والكثرة، إلى إشكال القدم والحدوث، إلى إشكال المشاهدة، إلى إشكال المُعاد، وغيرها من الإشكالات الفرعية التي تقتضي الصياغةَ لإزالة الإبهام وتلمس خيوط الإجابات.
وها هنا يقدم هذا النص العجيب فرصة للطالب لفهم الإشكال والتعامل معه. ومن هنا أهمية الشّكُوك في الفلسفة، وقد كان ابن طفيل عاشقاً للغزالي الذي يعتبر في كتابه «ميزان العمل» أن الشّكوك موصلة لليقين، وقد أورد له ابن طفيل نصاً جميلاً في هذا الإطار على أساس أن الشك يحرك الفكر ويفتح البصيرة. كما تطالعنا القصة بهذا الحرص على الاشتغال على المفاهيم بطريقة احترافية كبيرة، ومن هنا الوقوف عند مفردات اللغة، وهي تتشكل مفاهيم فلسفية مثل مفهوم «الطبيعة» ومفهوم «الهيولى» ومفهوم «الفاعل»، وغيرها من المفاهيم التي تشكل لحمة القصة وسداها.
وبدون المفاهيم يستحيل الفعل الفلسفي ويتعطل، الأمر الذي جعل ابن طفيل حريصاً في رسالته على ضبطها كما نجد في موقفه من العقل، ومن الذّات التي سافر بها في رياضته الروحية.
كما تطالعنا القصة بفنية عالية بنى بها حي بن يقظان استدلالاته المنطقية، وبخاصة وهو يستدل على وجود الصّانع بطريقي القدم والحدوث، بل إن نسيج النّص كله مُتمفْصِلٌ بالاستدلالات التي تُفضي مقدِّماتها إلى نتائجها في ضرب من النّسقية الفلسفية التي تجعل الرواية الفلسفية وكأنها جملة فلسفية واحدة، كما أنها حكاية واحدة متماسكة.
ورغم أن لابن طفيل موقف من المنطق قد يبدو سلبياً، فإن نسيج قصته لا يخرج عن وضع المقدمات واستنتاج النتائج في ضرب من التماسك المنطقي المنشود. إنه فعل التفلسف، الذي دعا إليه ابن رشد، وهو فعل منهجي بالأصالة، وحاجتنا إلى التمرس بالمناهج الفلسفية طريق إلى نضج ممارستنا الفلسفية الناشئة.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية