عالم محسن زايد

over 7 years in التحرير

موهبة السيناريست محسن زايد (23 أغسطس 1944 - 27 يناير 2003) تمنح أعماله السينمائية الصبغة الشخصية، كأنه الكاتب الأول لها، بالرغم من أنها مأخوذة عن روايات معروفة. فهو يمتلك موهبة إعادة نسخ رؤية الروائي، وامتصاصها لدرجة التشبع. وأيضا قدرته على التعامل مع طيف واسع من الكتَّاب: نجيب محفوظ، نعمان عاشور، يوسف السباعي، ويوسف شاهين، يوسف القعيد، وجميعهم لا تجمعهم رؤية واحدة متقاربة، ولكن محسن زايد له لقدرة على رؤية هذا المشترك الخفي الذي يدفعه للكتابة، بنفس الشغف، من خلال كتاباتهم.

                                                 ***
ربما هذه الصبغة الشخصية التي يضفيها محسن زايد على جميع أعماله تأتي من الحس الشعري الذي يصوغ به أعماله وحواراته، والذي يأتي بدوره من تأمل فلسفي سابق لمواضعات الحياة والموت وجميع أسئلتها الأساسية. هذا الحس الشعري/ الفلسفي يمكنه أن يجعل من أى سياق اجتماعي بسيط، سياقا وجوديا يحتوي على كنز فلسفي بداخله، بدون أي تزيُّد أو مبالغة.

شخصياته، جميعها، لها عمق وجودي ظاهر، مهما كانت بساطتها وبساطة حياتها أو طبقتها الاجتماعية، فالكل مسئول ويملك سؤالا جوهريا في حياته، سواء حول الموت أو الرزق أو عدالة الحياة، أو حتى عبثيتها. وربما هذا ما يثيره فى الروايات التى يعمل عليها، خاصة في أعمال نجيب محفوظ: أن يوجد بها أشخاص مسئولون، لهم هذا الجانب الوجودي فى شخصياتهم. فالشخصيات منقسمة بين مساحة اجتماعية خارجية تؤدي فيها حياتها، بجانب حضور مساحة داخلية رهيفة تأوي فيه لنفسها ولمعضلاتها الكبرى. حتى ولو لم يعرفوا، هؤلاء الأشخاص، هذا، ولكن هذه المساحة الداخلية تصطدم دائما بالمساحة الاجتماعية أو بمعضلة الوجود نفسها، لتدفع بهؤلاء إلى منتصف بحر القدرية والمأساة، وربما خير مثال على ذلك المعلم شوشة فى فيلم "السقا مات"، ليصبحوا أبطالا بمعنى عيهم بأقدارهم أو باستسلامهم لها أو بتمردهم عليها. لذا هو ليس متعاطفا فقط مع شخوصه بل يساعدهم للوصول إلى اكتشاف ذواتهم.

                                              ***

براعة محسن زايد تتجلى في أن هذا "البعد الداخلي" أو "المساحة الداخلية" فى شخصوصه، أو الذي يثيره فى كتابات الآخرين؛ غير مكرر، وطازج، وأعتقد أن السبب يرجع لتعددية وعي محسن زايد الذي منحه ميزة أن يحمِّل أبطاله سؤاله الوجودى ونظرته فى الحياة بدون أن تتشابه شخصيات وأرواح هذه الأبطال ولا أفعالها، بما يعنى أن هناك سؤالا أو وعيا متجددا أو موهبة متفجرة يملكها تصوغ لكل بطل، أو شخصية، جزءا من هذه الأسئلة المبدعة.

                                                ***

المعلم شوشة
في فيلم "السقا مات"* هناك حوار بين بطل الفيلم المعلم شوشة والموت. هذا البطل الذي يخشى الموت طوال حياته بسبب سابقة مؤثرة خلفها له الموت، فقد خطف زوجته الشابة أثناء ولادة ابنه السيد، ثم جاء أخيرا ليخطف صديقه شحاتة، مساعد التربي الذي يسير فى الجنازات، الوحيد الذي أحبه، وبدأ يثق بالحياة مرة أخرى، ويتصالح مع الموت من خلاله.

بعد تشييع جنازة هذا الصديق ودفنه، يسير البطل داخل عالم الموت، وهو محمل بعنف وجودي تجاهه، ويتحدث معه ندا لند.

فلسفة محسن زايد تكمن فى ثنايئات يصوغ بها شخوصه. فتموت الزوجة وهى تلد الابن، ويموت صديقه وهو يجهز نفسه للقاء غرامي ليدخل "جنة" عزيزة المومس الجميلة. ارتبط الموت فى الحالتين بالولادة، وبالجنس، وهو أحد التشابكات التي تستهوي وتكون رؤية محسن زايد، هذه الضدية المتآلفة بين الحياة والموت، وبين الموت والجنس.

يصف الدكتور "رفيق الصبان" معالجة محسن زايد لرواية "السقا مات" ليوسف السباعي وصفا بديعا سواء لمحسن زايد نفسه أو ليوسف السباعي "مرة أخرى يضرب محسن زايد ضربته (...) من خلال كاتب شهير هذه المرة جعله معحبوه رسما للحب الرومانسي، وأميرا من أمراء الكلمة المليئة بالعسل إلى درجة التخمة وهو يوسف السباعي. (...) لقد عبر من خلال السيناريو البارع الذي كتبه للسقا مات كيف يمكن لكاتب سينمائي شديد الذكاء والموهبة أن يكتشف ببراعة وذوق وشفافية، كل الدهاليز الخفية المظلمة التي تختفي في ثنايا القصر المرمري ذي الأعمدة البيضاء، الذي كان يوسف السباعي يقدم نفسه فيه لجمهوره".*

السيد الدوغري وعلى الطواف

فى مسلسل "عيلة الدوغري" المأخوذ عن مسرحية بالاسم نفسه للمسرحي نعمان عاشور، يحكي حياة "عيلة الدوغري"، وكبيرها الأب محمد الدوغري صاحب الفرن، الذي يموت ويترك قيادة العائلة للابن الأكبر السيد الدوغري الذى يعمل خياط حريمي. نلاحظ أن ما يستهوي محسن زايد هو  رصد "تاريخ عائلات" في لحظة تحول، بمعنى التدقيق في مصير هذه "الرابطة الجمعية" وسط التحولات الاقتصادية أو السياسية الكبرى، كما نرى في "ثلاثية" نجيب محفوظ.

هذا الابن "السيد الدوغري" هو الأكثر تصادما مع الحياة، وهو الذى يحمل بذرة صادقة في تكوينه ترتبط بالأب، والقديم بشكل عام، وفي الوقت نفسه يعيش داخل "عالم الموضة والحديث". هذا الابن بعد عدة تحولات فى حياته الشخصية، وفي حياة مصر السياسية، يعتزل الحياة ويتدين ويذهب للخلوة داخل هذا البيت العائلي. هذه "المساحة الداخلية" التى يبحث عنها دائما محسن زايد ويمنحها لأبطاله كي يراجعوا أنفسهم، ويعيدوا اكتشافها من جديد. كأنها، الخلوة، حضَّانة لحفظ هذه البذرة الحقيقية.

ويقوم بخدمة هذا "الولي" العائلي، واحد من الذين عاشروا أباه وهو "على الطواف"، الذي يعد من أهم شخصيات المسلسل والمسرحية، هذا الشخص الدوغري الذي فى قلبه على لسانه، برغم ضعف مركزه الاجتماعي. فقد اكتسب قوته هذه من السير حافيا طوال المسلسل، وسلاطة لسانه بالحق، من هذه الدرجة من الزهد والاستغناء وسلاطة اللسان، ربما ليشير المؤلف لشخصية صوفية تاريخية هي "بشر الحافي"، فالحفاء هنا دليل مكانة روحية اكتسبها الشخص، ولم يعد للمظهر الخارجي أى قيمة بعد أن انسحب كليا إلى داخله باتجاه الخلوة.

يشحن محسن زايد هذه "الخلوة" بنوع من "التصوف الشعبي"، وهو المكان/ المعنى الذي يلح على تأكيده فى أكثر من عمل، والذي يحتفظ بداخله بروح شعبية أصيلة كامنة فيه، وهو في النهاية أحد وجوه الوطن، أو أحد تجلياته، الذي يأخذ عند محسن زايد وجها صوفيا وفلسفيا بلا أي شعارات سياسية، إلا في أعماله الأخيرة "أيوب"، و"المواطن مصري". فالوطن عند محسن زايد له معنى صوفي، روحي، متسام.

جعفر الراوي وشكرون

فى فيلم "قلب الليل"، عن رواية بالاسم نفسه لنجيب محفوظ، والذي قام بإخراجه عاطف الطيب، هناك عالم الرموز الذي تمتليئ به "الحارة المصرية" فى بدايات القرن العشرين كممثلة لمصر وفلسفتها في هذا الوقت أثناء ثورة 19. الحارة معجونة بقوى روحية كامنة بها وبشكل تصميمها الرمزي كـ"الجنة"، حيث يعيش الجد الراوي الكبير مع أبنائه وأحفاده وتاريخه داخل هذه الحارة. ومن حول هذا الحي تمتد صحراء واسعة وطرق متربة تعيش بها طبقات أخرى من قاهرة بدايات القرن العشرين ليس لها نفس نظام التدين الشعبي الذي تكثر رموزه داخل الحارة. لقد خلط محسن زايد ومن قبله نجيب محفوظ بين رمز دينى وحقبة سياسية معينة، ولا يجتمع الاثنان إلا في حضور ثالث لهما يجمعهما معًا، وهو التدين الشعبي المرن الذي يعبر عن روح هذا المكان.

يظهر هذا الحفيد المنبوذ "جعفر" الذى يخرج عن تقاليد العائلة والجد الكبير، ويتزوج من غجرية، ليجد نفسه مطرودا خارج هذا "الوطن الدينى" أو الوعاء المعرفي القديم، أو 
"الجنة". تماما مثل الابن فى فيلم "إسكندرية ليه"، الذي قام محسن زايد بكتابة السيناريو له مع يوسف شاهين، الذى يجد حياته ليس خارج الوعاء المعرفي فقط بل خارج مصر كلها وباتجاه الغرب. حيث يغير من جغرافيا الجنة ويصوغ لها مكانا ماديا بعد أن كان مكانا روحيا بحثًا عن الذات. 
يناقش الفيلم أيضا قضية الحرية المرتبطة بالحب، تشكل طرق التعرف على الله والوجود والذات، جميعها تشكل مفهوم الوطن عند محسن زايد، هو شكل حضور الوطن داخل كل منا، كأنه وطن مرتبط بنوع من المعرفة الحدسية الكامنة داخل كل منا، والتي يتم الوصول إليها بعد تجربة حياتية قوية.

هناك تداخل فى هذا الفيلم بين الدين والأيديولوجيا بعد ثورة 19. زمن أسئلة كبرى ومعضلات وجودية وسياسية بحثًا عن الخلاص.. الابن الذى يخرج عن الرعاية هذه، الوعاء المعرفي الرمزي في الحارة يتحول إلى مثقف يرطن بالأفكار ويؤدى به للجنون فقد ذهب "للخلوة النفسية" التى لم تسعفه في اكتشاف نفسه وإنقاذها. ذهب لبيت القرية الذي تملكه زوجته، ليكتب كتابا يحل فيه كل معضلات الكون ويوفق فيه بين النظريات الفلسفية والوجودية. إنه مأزق المثقف المنفصل عن أصل وجوده.

ولكن فى هذا الفيلم أيضا هناك شخصية غنية هي "شكرون" صديق البطل الذى تربى في بيت الجد وظل يحافظ على علاقته معه، بالرغم من امتهانه الغناء وخروجه ودخوله للحارة، لم ينفصل عنها، وأفسح لمهنته مكانا وخلوة خارج المكان الذى تربى فيه، ولكن بدون أن تتعارض معه. كأن الموسيقى والغناء جزء من عالم الحارة الرمزي ومن المعتقد الشعبي، فعاش "شكرون" حياتين، داخل وخارج الحارة، بنفس واحدة غير منقمسة عكس ما فعل جعفر الراوي الذى خرج من نظام رمزى فى الحارة إلى نظام عكسي تماما لذا أصابه الجنون.

عبد الحميد السكري

هو رجل الأعمال "عبد الحميد السكري" في فيلم "أيوب" عن قصة نجيب محفوظ التي تحمل الاسم نفسه، الذي صعد بالتملق  والنفاق والفساد في فترة السبعينيات، زمن ازدهار الفساد السياسى في مصر، بعد أن كان واحدا من المناضلين فترة الجامعة، ولكن تبعا لتحول المجتمع سار معه. يصاب بالشلل ومع هذا المرض يقوم باستدعاء الماضي ليقاوم به هذا الحاضر المؤلم، فالمرض لحظة استدعاء للماضي، ربما لأصالة خاصة كامنة به، أو لجزء برىء من الشخصية. ربما المرض هو الحضانة أو "الخلوة المجازية" التى تجعله يعيد اكتشاف حياته.

عند إصابته بشلل جزئي، يسافر رجل الأعمال عبد الحميد السكرى لخلوته الخاصة على شاطئ فايد، فى الإسماعيليه وهناك يتخذ أهم قرار في حياته، وهو كتابة مذكراته والاعتراف بكل ما حدث في حياته من فساد وكذب ونفاق، ويجد أن هذا هو الثمن لاستعادة حياته وصحته، وليتخلص من الذنوب التى اقترفها في حياته.

داخل "الخلوة المجازية والمكانية" يكتشف عبد الحميد السكري ذاته، كأنها كانت تنتظره فقط ليخرج من هذا الزمن الرأسمالي المستمر المتمثل في الربح والثراء، ليعود لزمن غير ربحي كامن في هذه الخلوة أو "المساحة الداخلية" لأبطاله والتى تكمن فيها النجاة غالبا في رؤية محسن زايد ومن قبله نجيب محفوظ.

هناك تداخل بين الهم الوجودي والهم السياسي، وهو ما أعطى للفيلم حسا غريبا، تغليف الظرف السياسي بغلاف رمزي شفاف مشحون بأسئلة حول غاية الحياة، والموت، وما يبقى للإنسان غير حقيقته.

أمينة وفرجة

ربما الشيء اللافت فى طريقة تعامل محسن زايد مع "الثلاثية" التى كتبها نجيب محفوظ، أنه منحها الإيقاع اللازم لها، أبطأ إيقاعها، ليعيده لزمنه الأصلي، بعكس -طبعا- ضرورات "ثلاثية حسن الأمام"، التي كونت صورة الثلاثية فى أذهاننا. هذا "الإيقاع" منحه القدرة على إعادة قراءة الشخصيات وأعطاها زمنها الوجودي المشبع، وليس زمنها الدرامي فقط كما فعل حسن الإمام. لذلك مفهوم "السلطة" الزاعقة فى الفيلم تتحول مع محسن زايد إلى صياغة إنسانية وليست رمزية.

الصيغة الجديدة التى تعامل بها محسن زايد مع فكرة "الأب"، أو "الأم". فقد حذف من سلطة الأب "أحمد عبد الجواد"، هذا الجزء الرمزي الباطش، وحافظ على ازدواجيته كما هي. أما بالنسبة للأم "أمينة"، فقد أعاد لها سلطتها الأمومية، وحضورها النفسي القوي. لقد أدخل الحب، وليس الخوف، بين أمينة والسيد أحمد عبد الجواد. عاد الصراع، في المسلسل، بين أشخاص وليس بين رموز. وأعاد محسن زايد اكتشاف أهمية المرأة في عالم نجيب محفوظ في صورة "أمينة" وبناتها.

وهو السلوك الذي اتبعه في كتابة مسلسل "حديث الصباح والمساء". فالنساء وبخاصة فرجة وراضية وصديقة وغيرهن، هن المسيطرات أكثر من الرجال على عالم الغيب والحدس، ولهن هذه المسحة الصوفية المحببة لنجيب محفوظ؛ فى تفسير الحياة أكثر من الرجال. ولهن أيضا حضورهن القوي في تأسيس الحياة اليومية، المليئة بعلاماتهن وكلامهن وتنبؤاتهن، أكثر من الرجال، برغم انعزالهن في بيوتهن. فقد تمددت المساحة الشخصية الداخلية للمرأة لتشكل العالم الخارجي المليء بالرجال والصراع السياسي. هذا التماهي بين محسن زايد ونجيب محفوظ، جعله يتجاوز الصياغات النمطية والمكررة لعالم وشخوص الأديب الكبير.

........................................................

زمن محسن زايد- أيمن الحكيم- سلسلة آفاق السينما- العدد 31 - الهيئة العامة لقصور الثقافة.2003 . ص 10.

Share it on