الاتفاق البريطاني الأوروبي

٤ أشهر فى الإتحاد

بين العديد من الأحداث المفصلية التي نتابعها الآن في بؤر ساخنة عديدة متوترة في عالمنا، اخترت أن أكتب عن الاتفاق البريطاني- الأوروبي الأخير الذي أُعلن عنه في 19 مايو الجاري، والسبب أن هذا الاتفاق على أهميته بالنسبة للعلاقات البريطانية- الأوروبية لم يلقَ ما يستحقه من اهتمام بتفاصيله وتأمل في دلالاته، ربما لأن أصداء العنف في أوكرانيا والشرق الأوسط وشبه الجزيرة الهندية تطغى على ما عداها، ولم يمثل هذا الاتفاق أدنى مفاجأة للمتابعين لملف العلاقات البريطانية-الأوروبية منذ غادرت بريطانيا الاتحاد الأوروبي قبل خمس سنوات، فمنذ ذلك الوقت كان واضحاً أن الاقتصاد البريطاني يتعثر مقارناً بنظيره في دول الاتحاد الأوروبي، بل إن الجنيه الاسترليني انخفض بـ8.05 في المئة‏ في غضون دقائق من تصويت أغلبية البريطانيين بالموافقة على الخروج من الاتحاد الأوربي في يونيو 2016، وبعد «البريكيست» كان واضحاً أن أداء الاقتصاد الأوروبي يتفوق على أداء الاقتصاد البريطاني، فقد نما اقتصاد الاتحاد الأوربي على نحو أسرع من الاقتصاد البريطاني بنسبة 2.3 في المئة، كما أن الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي ارتفع منذ 2016 بنسبة 24 في المئة‏ مقارناً بـ6 في المئة في بريطانيا، ولذلك لم يكن غريباً أن يُظْهِر استطلاع للرأي العام في يوليو 2024 أن أكثر من 50 في المئة ‏من البريطانيين سوف يصوتون للعودة إلى الاتحاد الأوروبي.
ويمكن اعتبار الفوز الكاسح لـ«حزب العمال» والهزيمة الفادحة للمحافظين نقطة البداية في تصحيح المسار البريطاني مع الاتحاد الأوروبي، إذ لا يمكن استبعاد سياسات «بريكست» التي دافع عنها «المحافظون»، وبالذات رئيس الوزراء بوريس جونسون كأحد الأسباب المهمة لتلك الهزيمة، ويُلاحظ أن قضية العلاقة مع أوروبا كانت إحدى القضايا الساخنة في الانتخابات مع تخوف واضح من «المحافظين» بالانقلاب على سياسات «بريكست»، غير أن خسارتهم الثقيلة لا شك فتحت الباب أمام النهج المتوازن لتصحيح العلاقة مع الاتحاد الأوروبي الذي يتبناه زعيم حزب «العمال» ورئيس الوزراء الجديد «كير ستارمر».
ولعلي أُضيف أن هناك عاملاً مسكوتاً عنه من المؤكد أنه لعب دوراً في تمهيد الطريق لنجاح المفاوضات التي أفضت لاتفاق مايو الجاري، ويتمثل هذا العامل في سياسات ترامب التي أوجدت انقساماً أميركياً-أوروبياً في الموقف من الحرب في أوكرانيا، ورغم ما هو معروف من علاقة خاصة بين بريطانيا والولايات المتحدة، إلا أنه كان واضحاً أن هواجس الأمن الأوروبي في مواجهة روسيا تجمع بين بريطانيا ودول الاتحاد، وهكذا يمكن القول بأن عناصر تصحيح العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي قد نضجت نتيجة العوامل الداخلية والخارجية سابقة الذكر.
وهكذا تم التوصل إلى اتفاق 19 مايو الذي لا يمكن اعتباره انقلاباً على «بريكست»، وإنما تصحيحاً له، ويُظْهِر إمعان النظر في الاتفاق أنه ينطوي على توازن في المكاسب بين طرفيه، ليس بمعنى التوازن في كل بند من بنوده على حدة، وإنما على أساس أن بريطانيا ربحت أكثر في بعض النقاط، بينما ربح الاتحاد الأوروبي أكثر في نقاط أخرى، بحيث تكون المحصلة النهائية انعكاساً لتوازن المكاسب بين طرفيه، وبطبيعة الحال فقد ناصب «المحافظون» الاتفاق العداء، واتهموه بأنه يمثل عودة للاتحاد من باب خلفي، وفي هذا تكمن ميزة الديمقراطية المتمثلة في قدرتها على التصحيح، ففي ظلها تم اتخاذ القرارات التي بالغت في إسقاط الخيار الأوروبي، وفي ظلها أيضاً تمت عملية التصحيح.
*أستاذ العلوم السياسية- جامعة القاهرة

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على