أولوية ألمانيا.. لإعادة رسم مستقبلها
3 months in الإتحاد
تعرّضت أقوى ركائز الهوية الألمانية الداخلية والدولية لانهيار مدوٍّ خلال الأسابيع القليلة الماضية، لدرجة أن ملايين الألمان يستيقظون هذه الأيام متسائلين: مهلاً، ماذا حدث للتو؟!ويعتبر فريدريش ميرتس، وهو محامٍ سابق في مجال الشركات يبلغ من العمر 69 عاماً، الرجل المسؤول الآن عن فهم هذا الاضطراب الهائل، وقد وضع خارطةَ طريقٍ لتعزيز مكانة ألمانيا الجديدة في العالم واستعادة توازنها. وحقق ميرتس، الذي لم تُختبر قدراته، فوزاً بشق الأنفس في الانتخابات الألمانية المنقسمة في فبراير الماضي، وقد تولى رسمياً منصبَ المستشار في 6 مايو الجاري. وفي الواقع، فقد مارس ميرتس السلطةَ فعلياً خلال الشهرين الماضيين، مُحدِثاً تغييرات واسعة النطاق.وحتى قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية العام الماضي، قلبت وتيرةُ الاضطرابات المتسارعة السياسةَ الألمانيةَ رأساً على عقب، وساهمت في ركود مطول للاقتصاد الألماني، ثالث أكبر اقتصاد في العالم. كما أوقفت العمليةُ العسكرية الروسية في أوكرانيا إمدادات ألمانيا من الطاقة الروسية زهيدة التكلفة، ثم سرعان ما أصبحت الصين أبرز المنافسين، إذ تعد سوقاً مزدهراً للصادرات الألمانية.ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بلغ الارتباك الألماني ذروتَه. وكانت إحدى الصدمات هي العداء العلني الذي أظهرته الإدارة الجديدة، والذي أعرب عنه نائب الرئيس جيه دي فانس في خطابه بمؤتمر ميونيخ للأمن، وكذلك إيلون ماسك في منشوراتٍ لاذعة على مواقع التواصل الاجتماعي. وكانت الصدمة الأخرى هي تقليل الإدارة الجديدة من أهمية الشراكة عبر الأطلسي.وكان هذا التحول من واشنطن صادماً لثلاثة أجيال من الألمان في فترة ما بعد الحرب، ممن رأوا في الولايات المتحدة حامياً وسوقاً تصديريةً وداعماً لألمانيا الموحدة.ويُحسب لميرتس تقييمه الصحيح لحجم هذا التحول والاستجابة له أيضاً، ففي غضون ساعات من فوزه في الانتخابات الألمانية، في 23 فبراير الماضي، أعلن على الهواء مباشرةً أن «أولويته المطلقة» ستكون «تحقيق الاستقلال عن أميركا»، قائلاً بأنها أصبحت «غير مبالية بمصير أوروبا». ورغم أن هذا التصريح الصادم صادر عن شخص مُتمسكٍ بالشراكة عبر الأطلسي مع واشنطن، إلا أن ميرتس سرعان ما اتخذ خطوات جريئة وملموسة لتعزيز خطابه، ففي غضون أسابيع، أنهى فعلياً الحد الأقصى الصارم الذي فرضته برلين على الاقتراض والديون لمدة عقدين، والذي حرم الاقتصاد الألماني من السيولة اللازمة لتحديث بنيته التحتية وجيشه المتهالك. وبتمرير هذا الإجراء في برلمان يفتقر للصلاحية الكاملة، مهّد ميرتس الطريق لإنفاق جديد يقارب تريليون دولار على مدى العقد المقبل، وهو أكبر دفعة مالية للبلاد منذ سقوط جدار برلين. وقد يعزز هذا المبلغ الإنتاج الصناعي الدفاعي خارج حدود ألمانيا، ليعوِّض جزئياً عن الانسحاب العسكري الأميركي المتوقع في جميع أنحاء أوروبا.وفي الوقت نفسه، اتخذ ميرتس منعطفاً مذهلاً آخر متجاوزاً عقوداً من التوجس الألماني تجاه الأسلحة النووية، ليطرح فكرةَ احتماء ألمانيا بالمظلة النووية الفرنسية والبريطانية، وهو ما يمثل بداية مذهلة لرجل لم يشغل أي منصب تنفيذي من قبل. ويبقى أن نرى ما إذا كان سيحقق النجاح السياسي المزدوج المطلوب منه. وتكمن الأولوية الأولى لميرتس في التغلب على حالة الجمود التي كان يعاني منها اقتصاد ألمانيا قبل الجائحة. أما الأولوية الثانية، فتكمن في إقناع الألمان المحبطين بأن الأحزاب الرئيسية، أي حزب ميرتس «الديمقراطي المسيحي» (من يمين الوسط)، وشركائه في الائتلاف الحكومي الجديد، و«الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (من يسار الوسط)، قادرةُ على إحداث تغيير محتمل.إلا أنها ستكون مهمة شاقة في ظل العقبات الهائلة التي تضعها الولايات المتحدة أمام ألمانيا، حيث لا يوجد اقتصاد غربي رئيسي آخر يعتمد على التصدير مثل اقتصاد ألمانيا، والتي تبيع سلعاً بأكثر من 180 مليار دولار سنوياً للولايات المتحدة، وهي الأعلى في الاتحاد الأوروبي، مما يجعل برلين عرضةً بشكل استثنائي للرسوم الجمركية التي هدد ترامب بفرضها، بما يتضمن تعريفات على السيارات والأدوية.أما الخطر المباشر الآخر، فيأتي من داخل ألمانيا، فبجانب حصول ميرتس وحزبه على أقل من 30% من التأييد في الانتخابات، تراجعت شعبيته بشكل أكبر في استطلاعات الرأي، وسط تنافس على سياسات الحكومة بين شركاء الائتلاف الحاكم. وأثار هذا التحالف الإجباري حفيظةَ الكثيرين في قاعدة ميرتس، الذين رأوا أنه قد بالغ في التنازل عن الكثير في هذه الصفقة.وفي ظل خيبة أملهم من الأحزاب الوسطية، لجأ المزيد من الألمان إلى حزب «البديل من أجل ألمانيا»، وهو حزب قومي عرقي مناهض للهجرة، أعاد بعضُ قادته توظيفَ الرموز النازية، مقللين من شأن فظائع الحقبة النازية. وفي الشهر الماضي، تقدم حزب «البديل من أجل ألمانيا» على «حزب الديمقراطيين المسيحيين» بزعامة ميرتس، وهي المرة الأولى التي يتقدم فيها حزب يميني متطرف السياسةَ الألمانية منذ الحرب العالمية الثانية.والسؤال المطروح الآن: هل ميرتس هو الشخص المناسب لتفادي كارثة فوز حزب «البديل من أجل ألمانيا» في الانتخابات الألمانية المقبلة، المقرر إجراؤها عام 2029.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»
لي هوكستادر* *كاتب متخصص في الشؤون الأوروبية