الفصحى والعاميات.. صراع أم توافقات؟!

أكثر من ٧ سنوات فى التحرير

مطالعات في الحالة المصرية (2/2)

كان الدافع الثقافي وراء الدعوة للعامية وتأصيلها ووضع قواعد لها، هو محاولة سعت إلى رفع الازدواجية اللغوية، بين الخطابات الشفاهية اليومية، والكتابية والسعي إلى تجسير الفجوات بين لغة النخبة الكتابية الفصيحة، وبين لغة الجمهور العامية، وهي نزعة بواعثها كامنة في تبني بعض هؤلاء الدعاة لمفهومي "التطور" و"التقدم" المستعار من المرجع السوسيو- فلسفي الأوروبي، الذي كان يحركهم في إنتاجهم الفكري.

ثمة أسباب أخرى تمثلت في أن بعضا من هذه الدعوات ارتبط بعضها بإحياء النزعة الفرعونية، -في سياقات عديد من الاكتشافات الأثرية المهمة آنذاك- إزاء دعوات العروبة، وامتداد النزعة القومية المصرية إلى مجال النحت والتصوير الفني. بعض التوترات بين الفصحى والعامية، ظهرت في المسرح المصري، لا سيما الكوميدي وعلى رأسهم نجيب الريحاني في مسرحياته الممصرة عن الفرنسية، وفي مسرحيات علي الكسار، في مواجهة بعض المسرحيات ذات اللغة الفصحى التي كان يقدمها بعض المسرحيين المصريين الآخرين كجورج أبيض ويوسف وهبي وزكي طليمات وفتوح نشاطي في مسرحياتهم التاريخية. أكدت السينما أيضًا حركية اللغة العامية في كتابة القصص وسيناريوهات الأفلام.

كانت اللغتان الفصحى والعامية متداخلتين حينا، ومتمايزتين في عديد من الأحيان في لغة الإذاعة وبرامجها، وظهر عديد من الصحف والمجلات باللغة العامية، من مثيل مجلات البعكوكة، ونصف كلمة لمأمون الشناوي والفكاهة التي رأس تحريرها فكري أباظة في العشرينيات. ورائد الكتابة بالعامية عبد الله النديم الذي أصدر مجلتي "النديم" و"الأستاذ" في أواخر القرن التاسع عشر.

هناك أيضًا بعض المقالات التي كتبها بالعامية حسين شفيق المصري في مجلتي 
"الإثنين" و"الدنيا"، وكتب رواية بالعامية اسمها "الحاج درويش وأم إسماعين" في الثلاثينيات. وكتاب "مذكرات عربجي" الذي قيل إن سليمان نجيب كتبه، ويذكر فتحي غانم في مقال له أن فكري أباظة هو صاحب هذا الكتاب. هناك أيضًا ما كتبه المستشار عثمان صبري "شبابنا في أوروبا"، و"رحلة في النيل"، ونشر عام 1965 كتابه "أبجدية مصرية جديدة" بعد وفاته بعديد السنوات.
في هذا الإطار يمكن ذكر رواية مصطفى مشرفة "قنطرة الذي كفر" و"مذكرات طالب بعثة" للويس عوض التى كتبها في الأربعينيات وفقدها ثم وجدها سنة 1964، ثم نشرها في كتاب.

هناك أيضًا التمدد الكبير للغة العامية لدى بديع خيري، وبيرم التونسي، بل وبعض أغاني أحمد شوقي، والسلسلة الذهبية في شعر العامية المصرية من بيرم إلى فؤاد حداد، وصلاح جاهين، وعبد الرحمن الأبنودي، وأحمد فؤاد نجم، وسيد حجاب إلى عديد من شعراء العامية من السبعينيات إلى الآن.

ما ذكرناه سابقا لا يعدو أن يكون محض أمثلة على الصراع والتنافس والتوتر بين الفصحى والعامية التي استمرت في ظل نظام يوليو 1952. في تقديري المتواضع أن ذلك يعود أيضًا إلى عديد من الأسباب لا سيما في أعقاب ثورة يوليو 1952، يمكن طرح بعضها فيما يلي:

1- تطور القومية المصرية في طورها التسلطي الذي يمكن أن نطلق عليها القومية التسلطية، وطابعها الجماهيري، وسطوة مفهوم "الثقافة الجماهيرية"، وفي ظله بعض الشعبوية في أيديولوجيا النظام والإعلام وتمددها في بعض ثنايا العمل الثقافي والإعلامي على نحو أدى إلى موقف سياسي حاضن للغة العامية في عديد المجالات التي ترمي إلى التعبئة السياسية والاجتماعية في المسرح الكوميدي، وفي الغناء، وفي الشعر العامي.

2- تدهور النظام التعليمي ومناهجه عمومًا، وفي اللغة العربية وآدابها خصوصًا، وعلى نحو مستمر لا سيما منذ عقد الستينيات، وحتى الآن، ويعود ذلك إلى ما يلي:

أ- تراجع الذائقة اللغوية والأدبية لبعض مؤلفي مناهج اللغة العربية، وإعادة إنتاجهم لأنماط من النصوص النثرية والشعرية المقررة على الطلاب، التي تتسم بالصعوبة التي تدفع غالب الطلاب إلى الصد عن اللغة الفصحى، وعدم اختيار النصوص التي تفتح الأبواب أمام التلاميذ والطلاب إلى عشق اللغة والبلاغة.

ب- الطابع النقلي في العملية التعليمية التي تعتمد على الحفظ والاستظهار في الاختبارات المختلفة في اللغة العربية وغيرها من المواد المقررة.

ج- الربط بين العملية التعليمية في درس اللغة العربية الفصيحة بالدين والعقيدة -على أهمية ذلك- إلا أن ذلك أدى إلى تديين اللغة، والبلاغة العربية. 

د- سطوة اللغة العامية في أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، وفي الأغاني والمسرحيات الكوميدية وغيرها، وفي السينما، وهو ما أثر سلبًا على تعلم اللغة العربية وآدابها لدى الطلاب.

هـ- استخدام اللغة العامية لدى المدرسين والمدرسات في التعليم العام، بل لدى بعض أساتذة الجامعات، لا سيما في الكليات التي تدرس العلوم الاجتماعية، في كليات الآداب والعلوم السياسية والتجارة، بل ووصل الأمر إلى كلية الحقوق.

3- حركية اللغة العامية المصرية وتطورها وتمددها، وفي ذات الوقت جمود ران على اللغة العربية الفصيحة، من حيث البنيات النحوية، والمفردات المواكبة لانفجار المفردات والمفاهيم والنظريات والمصطلحات في الفلسفة وثورة الألسنيات ومناهجها ونظرياتها ومصطلحاتها في ظل الثورات التقنية الثانية والثالثة، حتى الرابعة الرقمية بامتياز، مع بطء سياسة التعريب على الرغم من الجهود المشكورة للمجمع اللغوي المصري، والمجامع اللغوية العربية.

4- بعض من الفوضى في استراتيجية الترجمة عن اللغات الأجنبية على نحو أدى إلى بعض من الفوضى الاصطلاحية، وعدم الدقة والركاكة اللغوية، لا سيما في مجال العلوم الاجتماعية، وذلك لبعض من الجمود في القاموس العربي الفصيح.

1- من هنا نستطيع القول إن هناك صراعات وفجوات وتوترات بين اللغة الفصيحة والعامية في مصر، على الرغم من بعض الجهود لتجسير الفجوة، دعا إليها بعض المثقفين والمبدعين المصريين، وعلى رأسهم توفيق الحكيم ودعوته ويوسف إدريس إلى اللغة الثالثة أو الوسيطة بين العربية الفصيحة الرصينة، واللغة العامية في مفرداتها الفصيحة والتي تبدو كأنها عامية لدى بعض الكتاب والإعلاميين.

2- هيمنة اللغة الإعلامية الميسرة، لا سيما في الكتابات الصحفية، في لغة الأعمدة الصحفية وصياغة الأخبار، والمقابلات، والتحقيقات الصحفية مع المصادر المختلفة.

3- تزايد الصراع مع تردي وتراجع مستوى اللغة الإعلامية عمومًا، لا سيما "التلفازية" أو المرئية، وميلها الغلاب إلى العامية مع الأجيال الجديدة من معدي ومقدمي البرامج المرئية المصرية، الفضائية، وفي الأقنية المرئية الرسمية.

4- استخدام العامية في عناوين الصحف الخاصة و"المستقلة" لا سيما في نهاية عقد التسعينيات، وفي العقد الماضي، وحتى الآن لجذب القراء.

5- تراجع الملكات والقدرات اللغوية بل والإملائية لغالبية الأجيال المتتالية من الصحفيين والصحفيات.
6- في السرد الروائي والقصصي ثمة تراجع في بعض مستويات اللغة ومجازاتها، والتداخل بين الفصحى الرديئة في مستواها البلاغي والعامية، لدى بعض الكتاب والكتابات.

السؤال لا يزال مطروحًا: هل ثمة صراع أم توافق؟
الصراع لا يزال مستمرا ويتمدد، وثمة خفوت في دعوات تطوير اللغة الفصيحة، وتمدد اللغة العامية، بعض التوافق يتحقق في بعض الأعمال السردية الإبداعية، التي تكتب باللغة الفصيحة المتطورة، مع دمج بعض من اللغة العامية المحلية في بعض مكونات بنية السرد الروائي، والقصصي، وهو أمر إيجابي.

من ناحية أخرى ثمة تدهور في الكتابة والحديث الشفاهي باللغة العربية الفصيحة لصالح عامية تفتقر إلى الدراسة العميقة، وإلى قاموس متجدد يحدد في دقة مفرداتها ومعانيها ودلالاتها.

لا تزال الدعوة إلى لغة ثالثة بين العربية الفصيحة والعامية، تمتلك بعضا من الوجاهة والصلاحية، مع ضرورة إيلاء عناية خاصة لتطوير اللغة العربية الفصيحة، وهي تتطور وتتجدد عبر الزمن ولغتنا تطورت منذ نهاية القرن التاسع عشر، وطيلة عقود القرن الماضي، وذلك على الرغم من الآثار السلبية لسعي بعض قوى الإسلام السياسي، وبعض الدعاة السلفيين إلى تديين اللغة وفرض أنماطها اللغوية الدينية الموروثة لتغدو لغة الخطابات الدينية، التي كانت قد تطورت مع اجتهادات بعض الإصلاحيين الإسلاميين الليبراليين، من الطهطاوي ومحمد عبده والكواكبي، ومصطفى المراغي، ومحمد عبد الله دراز، ومحمود شلتوت وعبد المتعال الصعيدي، وعبد الحميد بخيت وآخرين، وتراجعت لغة الخطاب الديني مع هيمنة الإسلام السياسي والسلفي الجهادي والراديكالي.

أستطيع القول إن الصراع بين الفصحى والعامية، يعود في بعض جوانبه إلى مشكلات التطور التقني والعلمي والثقافي والاجتماعي، بل والسياسي في مصر والعالم العربي، فثمة تزايد في فجوات التخلف التاريخي بيننا وبين الدول الغربية، وبعض دول آسيا الناهضة، في التقنية والعلوم الطبيعية، على نحو يساعدها على تطوير لغاتها من خلال الاكتشافات التقنية والعلمية ومن ثم تسمية هذه الاكتشافات واصطلاحاتها، من ناحية أخرى استعارة ودمج المفردات والاصطلاحات الجديدة في قلب لغاتها أو عبر اللغة الإنجليزية، ومن ثم يؤدي ذلك إلى حيوية بعض هذه اللغات. التخلف العلمي المصري والعربي، يسهم في إعاقة تطور اللغة العربية الفصحى، لا سيما في ظل ظاهرة تديين اللغة ذات الأبعاد السياسية، ناهيك ببعض الجمود الذي ران على جهود اللغويين وابتعاد بعضهم عن متابعة التطورات العلمية والنظرية في مجال اللغويات والألسنيات التي أدت إلى تطورات نظرية في مجالات العلوم الاجتماعية قاطبة.
ثمة حاجة ملحة إلى مناقشة أكثر عمقًا للصراع بين الفصحى والعاميات في حياتنا اليومية والفكرية واللغوية.

شارك الخبر على