السياق التاريخي لحاضرنا الاقتصادي

أكثر من ٦ سنوات فى الشبيبة

محمد محفوظ العارضيفي العقد الأخير من القرن التاسع عشر، طرح عالم الاقتصاد الأمريكي "ثورشتاين فبلن" أولى نظرياته التي وصفت طبيعة العلاقة والترابط العضوي بين البنية الاقتصادية والبنية الاجتماعية، وقال إن المجتمع بما يتصف به من علاقات وثقافات وميول، هو انعكاس مادي طبيعي لشكل البنية الاقتصادية السائدة في ذات الوقت. ولأن علوم فبلن تقاطعت ما بين الاقتصاد والاجتماع، أنكره العلماء من كلا التخصصين. فقد تجاهله علماء الاقتصاد بحجة أنه عالم اجتماع، وتجاهله علماء الاجتماع بحجة أنه عالم اقتصاد. وبقيت نظرياته قيد الإهمال، فليس من السهل أن تقاوم نظرياته الجديدة، العلوم الكلاسيكية التي سيطرت على ساحة المعرفة لسنوات طويلة.لم يمض وقت طويل، حتى جاءت الأحداث الاقتصادية في نهاية العشرينيات من القرن الفائت، والتي سميت فيما بعد بالركود الكبير، لتثبت حالة الاغتراب بين القوى الاجتماعية المنتجة، وبين وسائل الإنتاج. هذا الاغتراب الذي تعمق ليتحول إلى شعور بعدم انتماء الفرد للمنظومة الاقتصادية، فانفصل الاقتصادي عن الاجتماعي مما عمّق الأزمة وزاد من تداعياتها. لم يلمس المواطن في حينه بأن المجتمع يمتلك هذه الوسائل ويمتلك المؤسسة الاقتصادية، وأنها تعمل في خدمته وليس العكس. وبالتالي لم يشعر أنه يتحمل نصيبه من مسؤولية النهوض بالوضع الاقتصادي ولم يسعَ إلى الشراكة في صياغة شكل المنظومة الاقتصادية إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بسنوات طويلة، عند ظهور مفهوم التنمية الشاملة في السبعينيات من ذلك القرن.ها نحن اليوم وبعد فبلن بأكثر من مائة عام، نلمس عمق العلاقة المتبادلة بين المجتمع والمنظومة الاقتصادية، وأصبحت مقولة أن الاقتصاد السليم لا بد أن ينتج مجتمعاً سليماً وبالعكس، من مسلمات العلوم الاقتصادية الحديثة.إن تاريخ الاقتصاد مليء بلحظات الوعي المنيرة، حيث وقف العديد من العلماء أمام العالم ليعرضوا قراءاتهم عن ملامح المرحلة القادمة بسلبها وإيجابها. وكانت نتائج هذه القراءات تتحدد بمقدار جدية التعاطي معها من قبل رواد الاقتصاد والسياسية وصانعي القرار.لا أحد ينسى أنه في تاريخ 7 سبتمبر 2006، وقف عالم الاقتصاد الأميركي، نورييل روبيني، أمام اجتماع لصندوق النقد الدولي في نيويورك ليحذر العالم من أزمة اقتصادية قادمة، وتحدث عن احتمال دخول الاقتصاد الأمريكي حالة كساد عميقة سيكون سببها انهيار سوق العقارات، يتبعها صدمة عنيفة في أسواق النفط، ستؤدي بعد سنوات إلى ركود اقتصادي ضخم وواسع يلحق الشلل بأهم مفاصل ومراكز الاقتصاد العالمي.بالطبع قوبلت هذه التصورات بحالة تشاؤم شديد من الحاضرين، ووصفها العديد من علماء المال والاقتصاد بالمبالغة. لذا لم يتعاطى معها أحد بشكل جدي حتى وقعت الصدمة وحدثت الأزمة لتثبت للعالم دقة توقعات هذا الرجل.لم يكن روبيني وحده من قدّم نظرية احتمال نشوء أزمة توازي في قوتها وتأثيرها أزمة الركود الكبير العام 1928. فقد شاركه زميله جيرالد سيلينتي، العالم الاقتصادي المشهور الذي يعتبر من مؤسسي أحد الفروع الحديثة لعلم الاقتصاد وهو علم المستقبل الاقتصادي.إن التاريخ بمجمله مبني على استخلاص النتائج من التجارب، وإذا كانت المعرفة هي القوة الدافعة لمجمل النشاط البشري، ومحرك التاريخ نحو التطور، فإن التجربة هي مصدر المعرفة والعلوم، سواء حققت نتائجها الإيجابية أم فشلت في ذلك، فالنتائج ليست وليدة لحظتها، تماماً كما الأحداث الجسام التي عصفت بالتاريخ الاقتصادي على مر العصور، فقد كان لها مقدماتها التي أسست لنتائجها وانتقالها من مرحلة إلى أخرى في سياق التطور.تُرى، ماذا لو تعاطى العالم مع توقعات روبيني وزملائه، ونظريات فبلن بطريقة مختلفة؟ ماذا لو أُخذت هذه النظريات بعين الاعتبار ووُضِعت على طاولة البحث أما الساسة ورواد المنظومة الاقتصادية؟ من الصعب تحديد إجابة واضحة على هذا السؤال، لكن الحقيقة الأكيدة أن شكل الاقتصاد العالمي سيكون أفضل مما عليه الآن.إن اجتهادات علماء الاقتصاد وقراءاتهم مبنية على تحليل كافة العناصر الاقتصادية والاجتماعية التي تكوّن المنظومة الاقتصادية، فعلم الاقتصاد، علم مادي مبني على القياس والمقاربة والتحليل للتجربة الاقتصادية التاريخية، كغيره من العلوم الاجتماعية والإنسانية والحيوية. وإهمال التجربة الاقتصادية يعني أن نبقى أمام عتبات المستقبل بدون دليل نسترشد به في تحديد خطواتنا القادمة، وأن نظل في دائرة المغامرة التي سيكون ثمنها قاسياً ليس على الاقتصاد فقط بل وعلى استقرار المجتمعات وأمنها وانسجامها.لا شك في أن العالم اليوم أصبح أكثر مسؤولية أمام هكذا قراءات، وأن العلوم والممارسات الاقتصادية نضجت بما يكفي على نار تجربتها التاريخية السابقة بحلوها ومرها، لتكون أكثر قدرة على قراءة اتجاهات مستقبلنا الاقتصادي، ومعالجة المسببات بدل مواجهة النتائج.إن الفعل سواء كان فردياً أو جماعياً، يجب أن يكون مبنياً على التوقعات المسبقة للنتائج. والتوقعات السليمة هي تلك القادمة من التجربة والمعرفة في إطار سياقها التاريخي، فإذا كان حاضرنا هو وليد ماضينا، فإن المستقبل يتشكل الآن في رحم هذه اللحظة، مما يجعلنا مدعوين لتحمل مسؤولياتنا في تحديد اتجاهات الأحداث والتأثير في مجرياتها، ومن ثم قيادتها نحو مستقبل آمن ومزدهر كما نتمناه لشعبنا ولكافة شعوب الأرض.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على