الديمقراطية الليبرالية.. ونصائح دوفيلبان

٦ أشهر فى الإتحاد

آخر مرة تجاهلت فيها واشنطن «دومينيك دو فيلبان»، كانت النتيجة حرباً في العراق بلغت تكلفتها 1.8 تريليون دولار، وأسفرت عن مقتل 4500 جندي أميركي ومئات الآلاف من العراقيين على مدى ما يقرب من تسع سنوات، مما استنزف هيبة أميركا وأغرق الشرق الأوسط في الفوضى. ربما يجدر الاستماع إلى دوفيلبان الآن. دو فيلبان رجل دولة فرنسي محافظ، شغل منصب وزير الخارجية في عام 2003، حيث ألقى خطاباً مؤثراً رداً على خطاب وزير الخارجية الأميركي كولن باول في الأمم المتحدة، والذي دافع فيه عن خطة إدارة جورج دبليو بوش لغزو العراق والإطاحة بصدام حسين.
وفي خطاب أثبت أنه كان استشرافياً، جادل السياسي الفرنسي بأن الحرب لم تكن مبررة بالمعلومات الاستخباراتية المتاحة، وحث على نزع سلاح العراق من خلال عمليات تفتيش تقوم بها الأمم المتحدة، وحذر من «عواقب لا يمكن التنبؤ بها» للغزو، ليس أقلها التحدي الهائل المتمثل في إعادة بناء العراق المدمر. وسط النزعة القومية الأميركية بعد أحداث 11 سبتمبر، قوبل خطاب دو فيلبان - وفي ظل رفض الأمم المتحدة تلبية مطلب واشنطن بتفويض الغزو - بالسخرية في الكونجرس. فقد تم استبدال «البطاطس الفرنسية» في كافتيريات مجلس النواب الأميركي بـ«البطاطس الحرة». لكن العداء لأميركا لم يكن أبداً سمة دو فيلبان.
فقد أمضى شبابه في الولايات المتحدة، وتخرج من المدرسة الثانوية في نيويورك، وكان معجباً بالثقافة الأميركية. وقال في مقابلة عام 2012: «بالنسبة لكل محب للحرية والديمقراطية، تظل الولايات المتحدة دائماً مصدر إلهام». الآن، بعد أن بلغ من العمر 71 عاماً، ويطمح للترشح لرئاسة فرنسا عام 2027، يحمل دو فيلبان رسالة أخرى يجب على الأميركيين سماعها، وهي رسالة تتناغم اليوم مع المشهد الراهن في واشنطن كما كانت قبل 22 عاماً عشية حرب العراق. يرى دو فيلبان في تحركات الرئيس دونالد ترامب لفرض سلام غير عادل على أوكرانيا، وممارسته لدبلوماسية الإملاءات في غزة، إدارةً أخرى لا تدرك العواقب المحتملة لسياساتها.
وقال دو فيلبان في لقاء مع مجموعة من المراسلين الأجانب في باريس مؤخراً: «لقد كانت الفوضى حتمية منذ اليوم الأول لقرار الولايات المتحدة خوض الحرب في العراق. وأقول لكم إنه منذ اليوم الأول من رئاسة دونالد ترامب، ستكون الفوضى والثمن الاقتصادي والاستراتيجي الباهظ هو النتيجة النهائية لهذه الإدارة الأميركية الجديدة».
في أوكرانيا، يشعر دو فيلبان بالحيرة من التنازلات غير القسرية التي يقدمها ترامب لفلاديمير بوتين، في ظل الآفاق الاقتصادية المتدهورة لروسيا مع استمرار الحرب. أما في غزة، فهو يسخر من فكرة أن ترامب يعتزم استبدال مليوني فلسطيني بمنتجع مملوك لأميركا على البحر المتوسط. وقال بتهكم: «ليس لديكم ما يكفي من الجنود في الولايات المتحدة لحماية الريفييرا في غزة». ورغم إدراكه للاختلاف في الظروف بين بوش وترامب، إلا أنه يرى خيطاً مشتركاً بينهما، وهو الافتراض المتعجرف بأن القوة الأميركية وحدها كافية لتحقيق النجاح.
وأضاف دو فيلبان: «ترامب لا يكرر خطأ بوش بالاعتقاد أن بإمكانه فرض حل عسكري في أوكرانيا، لكنه يظن أنه يستطيع حل مشكلات العالم من خلال القوة المطلقة أحادية الجانب. ويمكنني أن أخبركم اليوم أن هذه العقلية ستؤدي إلى نفس العواقب السلبية والمزعزعة للاستقرار في جميع أنحاء العالم». تحدث دو فيلبان في 14 فبراير، بعد يومين من مفاجأة ترامب للأوروبيين بإجراء مكالمة هاتفية استمرت 90 دقيقة مع بوتين، دون إخطار حلفاء واشنطن مسبقاً.
ومنذ ذلك الحين، تراكمت الأدلة على أن البيت الأبيض يسعى لاستعادة العلاقات مع الكرملين أكثر من حرصه على تأمين سلام عادل لأوكرانيا، كما قال دو فيلبان. ويتوقع دو فيلبان رد فعل على محاولات ترامب فرض إرادته في غزة كما في أوكرانيا. ويرى أن الاعتقاد بإمكانية تجاهل المبادئ والقيم والقواعد هو «أكبر خطأ ترتكبه هذه الإدارة الأميركية»، وستجعل الولايات المتحدة معزولة. وقال دو فيلبان: «إذا كان دونالد ترامب يؤمن بالديمقراطية غير الليبرالية، فنحن في أوروبا لا نؤمن بها. وسنقاتل من أجل الديمقراطية الليبرالية أكثر من أي وقت مضى».
في الواقع، يبدو أن آفاق الديمقراطية الليبرالية في أوروبا آخذة في التدهور، حيث تكتسب القوى غير الليبرالية، نفوذاً متزايداً. ويرى دو فيلبان أن الشعبويين على جانبي الأطلسي لا يملكون ردوداً على اليأس والقلق والخوف الذي يغذونه.
لكنه يعترف بأن الليبرالية تجد نفسها في مأزق أمام سيل المعلومات المضللة، التي تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي التي يسيطر عليها من أسماهم «التكنوقراطيون الأوليجارشيون». لقد أعرب دو فيلبان عن ذهوله من ازدراء ترامب للنظام العالمي الذي تأسس بعد عام 1945، ومن الواقع المتزايد بأن واشنطن لم تعد تكترث بأمن أوروبا. وقال: «يجب أن نكون اليوم في حالة طوارئ أوروبية، لضمان تحقيق السيادة والاستقلال الكاملين». ويعتقد أن أوروبا يمكنها أن ترتقي إلى مستوى التحدي. أما بالنسبة لمكانة أميركا في العالم، فقد كان تقييمه أقل تفاؤلاً.
*كاتب متخصص في الشؤون الأوروبية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»

شارك الخبر على