«حفائر الموت».. آثار تحت الألغام (تحقيق استقصائي)

أكثر من ٦ سنوات فى التحرير

تحقيق: صلاح لبن وأحمد سعيد حسانين

- العاملون بالمناطق المُحاصرة بالألغام لا يحصلون على بدل مخاطر.. والضحايا لا تُصرف لهم تعويضات مناسبة
- أحد المصابين اصطحب معدّي التحقيق إلى موقع انفجار اللغم.. ومسؤول «الآثار»: «معملناش مسح»
- معدا التحقيق يواجهان الأمين العام بالمجلس الأعلى للأثار.. والمسؤول يرد: 99% من المواقع الأثرية آمنة
- مسؤولو «الآثار» يستعينون بالدليل لتجنب التعرض لمخلفات الحروب المنتشرة بالمواقع الأثرية
- والد أحد الضحايا: ابنى مات من غير ذنب.. ومسؤول بـ«الآثار»: لدينا هدف أكبر من أى حد يموت

 

فى شهر ديسمبر من عام 2015، احتفلت إحدى البعثات الأثرية المصرية باكتشاف أكبر قرية أثرية بمنطقة تل دفنة بالإسماعيلية، التي تقع على مساحة 1200 فدان، وقام الدكتور ممدوح الدماطى، وزير الآثار وقتها، بدعوة وسائل الإعلام المحلية والدولية لتغطية الحدث، وظهر الوزير سعيدًا متفاخرًا بتحقيق إنجاز غير مسبوق.

لم يمض شهران على ذلك المشهد، حتى تحولت تلك «الاحتفالية» إلى «مأتم»! حيث تعرضت المنطقة إلى حادث مأساوى، كان نتيجة انفجار لغم أثناء عمل البعثة، الذى خلف وراءه ثلاث ضحايا، بينهم اثنان من القتلى، هما: محمد السيد سالم، ومحمد عبد السلام، ومصاب يدعى سعيد غانم، وهو ما دفع وزارة الآثار إلى إصدار قرار بوقف أعمال الحفر بتلك المنطقة.

«تل دفنة».. أول الخيط

«حادث تل دفنة» كان أول الخيط لتحقيق استغرق إعداده سبعة أشهر، تنقَّل خلالها معدا التحقيق بين 5 محافظات: الإسماعيلية، الشرقية، مرسى مطروح، الغربية، الجيزة، إضافة إلى منطقة آثار مارينا بمدينة العلمين المنفصلة إداريًا عن مرسى مطروح. بحثًا عن معلومات موثقة حول المناطق الأثرية المهددة بالألغام.

خلال تلك الزيارات تمكنا من التوصل إلى وجود 8 مناطق أثرية مُهددة بفعل الألغام، وسقوط ضحايا وسط تعتيم على تلك الوقائع، فضلًا عن إصدار موافقات رسميَّة بالعمل فيها دون معرفة طبيعة هذه المناطق أو اتخاذ إجراءات للحماية والسلامة، كل ذلك فى ظل عدم امتلاك وزارة الآثار خرائط للمناطق الخطرة أو إحصائيات لمن فقدوا حياتهم أو أصيبوا أو تعرضوا لمخاطر فيها.

لم نستطع الحصول على معلومات عن ضحايا ذلك الحادث، ومناطق إعاشتهم سواء من مسؤولى وزارة الآثار أو من خلال محركات البحث التقليدية، فلم يكن أمامنا سوى الذهاب إلى تل دفنة، موقع الحادث، تلك المنطقة التى عرفنا فيما بعد أنها صحراوية.

فى الطريق إلى تلك المنطقة، خضنا رحلة محفوفة بالمخاطر، وسلكنا طرقًا غير ممهدة، لا تتسع إلا لمرور سيارة واحدة، كان كل ما حولنا عبارة عن أراضٍ زراعية، وكنا نسمع بين حين وآخر أصوات محطات ضخ المياه، التى كانت تقطع الهدوء، الذى يخيم على الطريق، بينما كانت أدخنة قش الأرز، تتصاعد نحو السماء، لتغير ألوانها الصافية إلى السواد القاتم، ساد لدينا اعتقادٌ أن معظم ساكنى المناطق القريبة اتخذوا من الدراجات البخارية وسيلة الانتقال الوحيدة.
وصلنا إلى المنطقة التى دلنا إليها قائد إحدى الدراجات البخارية، كان ملثم الوجه، لا يظهر منه سوى عينيه الواسعتين، كعادة أقرانه من البدو الذين يقطنون هذه المناطق، قطعنا 5 ساعات متواصلة فى الطريق إلى تل دفنة، لنكتشف أنه لا شىء ينتظرنا سوى رمال الصحراء.

تلاشى ذلك الشعور قليلًا عندما وجدنا ثلاثة عمال يحفرون على الجانب الأيمن من الطريق، سألناهم عن مدى علمهم بالحادث وضحاياه، كانت إجابة أحدهم كفيلة بتغيير وجهتنا والانتقال نحو قرية «الأمانى»، التى تبعد مسافة عشرة كيلومترات عن تل دفنة، هناك كان يسكن «سعيد غانم»، الذى أصيب أثناء الحادث.

حين وصلنا إليه كان جالسًا على كرسى خشبى خارج منزل متواضع من الطوب اللبن، لم يكن فى بادئ الأمر مرحبًا بالحديث عن الحادث، كان يرى أن ذلك لن يغير شيئًا من الواقع الذى يعيشه، لكن بعد عدة محاولات لإقناعه برواية ما يتذكره عنها من أجل التوثيق، اشترط علينا، إذا كان لدينا جدية فى نقل الصورة بتفاصيلها، أن يحدث ذلك فى المنطقة، التى انفجر فيها اللغم.

السير وسط الألغام

تغيرت حياة «سعيد»، الشاب الثلاثينى، الذى فقد 20 كيلوجرامًا من وزنه، بعد عملية استئصال أمعائه، لم يعد قادرًا على توفير احتياجات أسرته الصغيرة المكونة من 4 أفراد. فقد توقف به الزمن عند مشهد اللغم، الذى شق بطنه إلى نصفين، وأجلسه بلا عمل.

كنا نسير وفقًا لتعليمات سعيد، طلب منا إيقاف السيارة، والسير خلفه. نحن الآن نتحرك ببطء، بخطوات ثقيلة، فالمنطقة التى نتجول فيها تمتلئ بمخلفات الحروب، دبّ الخوف فى أوصالنا، بعد دقائق من السير فى المجهول، توقف سعيد بشكل مفاجئ، حيث فقد التحكم فى أعصابه، فقد كانت يداه ترتعشان، وقدماه لا تقويان على حمله.

فى تلك النقطة التى تسمَّر عندها سعيد، تذكر أنها شهدت جلسته الأخيرة مع صديقيه اللذين راحا ضحية الانفجار، كانوا يتناولون الغداء آنذاك، وتحدث معهم محمد السيد سالم، الذى كان يبلغ من العمر 22 عامًا، زف إليهما خبر نيته الارتباط بإحدى فتايات قريته، وأن أسرتها وافقت عليه، لكن المفارقة أن الموعد المحدد لزيارة أهل العروس وإتمام الخطبة، شهد جنازته.

يروى سعيد غانم، فى أسى، وكأنَّ شريط الذكريات الحزينة يمر أمام عينيه، «يوم الحادث محمد كان فرحان وبيضحك، وبيقولنا النهاردة يوم الهنا والسرور، وهاعمل معاكم واجب» يصمت، ثم يكسو وجهه سحابة حزن فى هذه المنطقة الصحراوية: «دلوقتى هيتجوز فى الجنة».

معدا التحقيق مع أحد ضحايا الألغام بتل دفنة

لكن كيف وقع الانفجار؟ يستكمل سعيد حديثه: «الألغام اللى كنا بنلاقيها فى الأرض كنا بنسأل عليها أفراد البعثة، وكانوا بيقولوا لنا إنها مخلفات حرب ارموها على جنب. لما كنا بنشتغل بالفاس وبنخبط فى الأرض، لغم انفجر فينا، جاتلى 3 شظايا واحدة فى البطن وصلت لحد الأمعاء، واتنين فى دراعى، واحدة ناحية اليمين من الأمام والثانية فى منتصف ذراعى».

يحمّل سعيد، وزارة الآثار مسؤولية الحادث: «ماكنتش أعرف إن المكان فيه ألغام، لأنى مش معايا خرائط، والمفترض اللى يعرف ده المسئول عنها، وزارة الآثار لأن معاها الخرائط، كل الضحايا من العمال الغلابة، مفيش حاجة حصلت لمسئول آثار، والله لو كان واحد فيهم اتصاب كانت الدنيا قامت وماقعدتش».

يسترجع سعيد المشهد كاملًا: «مش ناسى يوم الحادث، اللغم دفعنى أمتارًا للأمام، وشفت الدم نازل منى زى النافورة، كتموا بطنى ورمونى فى الإسعاف»، مضيفًا: «كنا شغالين حوالى من 45 إلى 50 شخص، كلنا أرزقية بنقبض 50 أو 100 جنيه يومية، المنظر اللى شافه العمال لو أدوا العامل منهم مليون جنيه علشان يخرج حاجة مش هيعمل كده، كل اللى كان بيشغلنا إن فترة العمل تطول».

أجرى سعيد بعد الحادث، عملية استكشاف فى بطنه، ويتذكر: «كان دمى بيتصفى، وقالولى ممنوع أزود فى الأكل لحد لما أموت، طلعوا الشظايا من بطنى، واللى فى دراعى اليمين، والأخيرة لسه ماطلعتش لحد دلوقتى، يعنى إحنا علشان نساعد البلد يبقى ده حالنا، ينفجر اللغم فى الأرض وانصاب وماقدرش أتحرك».

طلب منا الاكتفاء بذلك الحديث داخل الموقع حتى لا يلحظنا أحد، متابعًا قصته عند وصولنا المنزل: «الآثار رأفت بحالتى، ودفعت 2850 جنيه للعملية، وصرفوا 5000 جنيه تعويض، والفلوس دى لو هشترى بيها دم مكان اللى راح منى مش هتعوضنى، صرفتهم أكل وشرب لعيالى، مافيش حد زارنى من الآثار، غير مرة واحدة دفعولى 46 جنيه باقى يوميتى».

أنهى سعيد حديثه بعدة تساؤلات: «نفسى أسأل الآثار معاها ورق وخرائط ولا إحنا شغالين بنسرق؟ إزاى بيخلونى أحفر وأخبط بالفاس وفى الأخر اتبهدل وحياتى تضيع؟ عارف إن مفيش حد هيسمعنى، مين هيسمع واحد فلاح؟!».

«عُرس» يتحوّل إلى «مأتم»

كانت وجهتنا التالية إلى قرية أبو شراويد، التابعة لمحافظة الإسماعيلية، حيث يسكن السيد سالم، والد أحد ضحايا الحادث، والبالغ من العمر 42 عامًا، طلب استئذان المحامى الذى وكّله فى اتخاذ الإجراءات القانونية للحصول على تعويض بعد فقدان نجله جراء انفجار لغم فى وجهه على إجراء المقابلة، وهو ما قوبل بالموافقة.

«محمد كان بالنسبة لنا كل حاجة ابنى وصاحبى، كان بيشتغل مع هيئة الآثار، يوم الحادث فطر معايا الصبح بدرى وبعد كده طلع الساعة 7 الصبح، وانفجر اللغم فيه، فجّر دماغه.. مات يوم ما كنا هنلبسله الشبكة»، لم يستطع الحاج سالم أن يتمالك نفسه، وهو يتحدث عن نجله، بين حين وآخر يقطع النحيب استرساله.

لا تزال صورة محمد لا تفارق مخيلة أبيه، رغم مرور عدة أشهر على وفاته، كان قلبه يعتصر وهو يحكى: «استقبلت الخبر 8 صباحًا، جالى أحد أقاربى قالى إن فيه لغم انفجر فى الناس اللى شغالين فى هيئة الآثار، جريت على المستشفى، قالوا إن محمد متعور فى وشه، قلت يا رب مايكونش عينه طارت، دخلت شفت ابنى قلت إن لله وإن اليه راجعون ورجعت استعوضت ربنا فيه».

سيد سالم.. والد أحد ضحايا الألغام

وسط دموعه يحكى سالم عن الحوار الأخير: «كنا قاعدين الصبح بدرى، صلى الفجر، وقالى يابا أنا شفت العروسة إمبارح، وإن شاء الله آخر النهار هاروح أتكلم عليها، بدل ما أخطب لابنى، روحت دفنته».

حسب حديثه، فإن وزارة الآثار صرفت 10 آلاف جنيه تعويضًا عن الحادث، لكن ذلك لم يكن كافيًا، لذلك لجأ إلى القضاء «لأن اللى حصل ما يتسكتش عليه». ويؤكد الحاج السيد سالم معلومة أن العاملين لم يعلموا بوجود خطورة على حياتهم أثناء العمل فى المنطقة، وقال: «بعد الحادث تواصلنا مع بعثة الآثار، وأخبرونا بعدم درايتهم بوجود ألغام فى المنطقة، وأنهم حصلوا على تصريح بالعمل فى مكان الحادث».

خرجنا من المقابلتين، بمعلومات جديدة. أولًا، وزارة الآثار لم تصرف بدل مخاطر للعاملين بالمنطقة. ثانيًا، لم يتم تقديم تعويضات مناسبة للضحايا. ثالثا، عدم دراية العاملين بأنهم يعملون فى منطقة خطرة مُحاطة بالألغام.

اتجهنا إلى مدينة الحسينية بمحافظة الشرقية بعد تحديد مقابلة مع حسن قابيل، محامى السيد سالم، لمعرفة المسار القانونى للقضية، الذى حصلنا منه على نسخة من التحقيقات الرسمية، التى تؤكد انفجار اللغم أثناء قيام العمال بأعمال الحفر.

أوضح قابيل، أنه تقدم بدعوى تحمل رقم 104 سنة 2017 مدنى كلى تعويضات بمبلغ 300 ألف جنيه عن الأضرار المادية والنفسية، التى لحقت بأسرة موكله، مختصمًا وزير الآثار ورئيس المجلس الأعلى للآثار ومدير منطقة آثار الإسماعيلية ومحافظ الإسماعيلية، لأن مسئوليتهم أن يكون هذا المكان مطهرًا وخاليًا من الألغام أو أى شىء ينتج عنها ضرر للعمال.

وكشف عن أن هناك مسئولين فى الآثار طلبوا منا أن نتمهل على أساس أنهم يتخذون إجراءات معاش للوالد والوالدة، وكان موكلى خائفًا من أن تتسبب دعوى التعويض فى عرقلة إجراءات حصوله على المعاش الشهرى.

صورة من تحقيقات واقعة تل دفنة

حقٌ ضائعٌ

بعد ذلك كانت وجهتنا إلى قرية 15 بحر البقر، التابعة لمحافظة الشرقية، لمقابلة أسرة الضحية الثانية فى الحادث، التى اكتشفنا أنها لم تتخذ إجراءات قانونية للحصول على حقها فى التعويض، حيث رفضت الاستجابة لطلبات المحامين، الذين كانوا يترددون عليهم منذ وقع الحادث، بدعوى أنها فقدت ما هو أغلى من التعويض المادى.

يقول والد محمد: «طلبت أشوف ابنى وهو فى الإسعاف، فتحت الباب غصب عنهم، كنت فاكره مُصاب أو حاجة، لكن لاقيته ميت، لو كنت أعرف إن الموضوع خطر ماكنتش سيبته يمشى لوحده، إحنا مانعرفش حاجة عن الألغام، لكن يمكن الحكومة كانت تعرف»، مستدركًا: «كنا بنسمع كلام إن اللغم بقاله 100 أو 200 سنة، طب مين اللى جابه هنا، وبعدين لما تكون المنطقة فيها خطر بيشغلوا ولاد الناس فيها ليه!».

وتابع: «صحيت الصبح بدرى قولت له بلاش تمشى النهاردة يابنى ورانا مصلحة نقضيها، قال لى أنا هامشى علشان فيه قبض النهاردة، قولت له ربنا يسهلك، ومشى ومن ساعتها مجاش تانى».

فى تلك الأثناء أحضرت لنا زوجته صورًا لنجلها كانت قد خبأتها من الحاج عبد السلام حتى لا يراها، التقط منها تلك الصور موجهًا حديثه لها: «ليه ماحدش عرفنى إن فيه صور موجودة لمحمد»، أخذ ينظر إلى صور ولده فى صمت. التقطت الوالدة طرف الحديث: «كنت نايمة، وقمت على الخبر، كنت مطمنة عليه وهو وسط الدكاترة والمهندسين، قولنا إن ولادنا مع الحكومة، مش هنخاف عليهم، لكن فى الآخر حقه ضاع».

والدة "محمد عبيد" أحد الضحايا

المفارقة كانت فى عدم تعرض أى مسؤول بالبعثة لأذى حين انفجر ذلك اللغم، وكان ضحايا الواقعة يعملون بيومية تصل إلى 100 جنيه نظير أعمال الحفر فى المنطقة، واكتشفنا فيما بعد أن قوانين وزارة الآثار لا تسمح لغير الأثرى باستخدام الفأس فى أعمال البحث والتنقيب عن الآثار، وأنه من المفترض أن تقتصر مهام العمال على رفع الردم (التراب) فقط، لكن ذلك لم يحدث فى تل دفنة.

مسئول أثرى: «ماكناش نعرف إن المنطقة فيها ألغام»

واجهنا الدكتور محمود عفيفى، الذى كان يشغل منصب رئيس قطاع الآثار المصرية آنذاك، وضمن وفد مثّل الوزارة أثناء الاحتفال باكتشافات تل دفنة بما لدينا من معلومات، فكان رده: «إحنا ماكناش نعرف إن المنطقة فيها ألغام، وماعملناش مسح على المنطقة لأنها كانت مكتشفة قبل كده».

أما عن موقفه من حديث مصاب الحادث وأسر الضحايا بأن مسؤولى البعثة استمروا فى أعمال الحفائر رغم عثورهم على مخلفات حروب قبل وقوع الحادث قال: «المعلومات ما بتجيش من العمال لكن بتيجى من مسؤول الآثار بالمحافظة».

مسؤول الآثار، الذى أنكر علم الوزارة بوجود ألغام فى المنطقة مستهينًا بشهادات العاملين، طلب أن يتوقف الحديث عند تلك النقطة، بدعوى ارتباطه بمحاضرة فى إحدى الجامعات، وقد ظهر عليه أنه لا يرغب فى استمرار المكالمة أكثر من ذلك.

وتضع وزارة الآثار إجراءات للموافقة على الطلبات المقدمة من البعثات الأثرية المختلفة لبدء أعمال الحفائر في مناطقها المسجلة، فيما كشفت واقعة تل دفنة عن وجود قصور في الالتزام بهذه الإجراءات 

آثار العلمين.. ملغومة

لم يكن ضحايا تل دفنة الوحيدين، الذين تعرضوا لحادث انفجار لغم أرضى فى مناطق تابعة لوزارة الآثار، ذلك ما اكتشفناه خلال رحلتنا إلى مدينة العلمين، التى لم تسلم هى الأخرى من تلوث مناطقها الأثرية بمخلفات الحروب.

جاسم خالد جالى، فقد أحد ذراعيه أثناء تجوله فى منطقة تل عيس الأثرية، حكى ما أسعفته به ذاكرته عن يوم إصابته: «كنت بلعب بقطعة حديد مع صاحبى، لكنها انفجرت فينا، هو مات وأنا إيدى اتقطعت، طلعت أجرى على القطار المتجه من مطروح إلى الإسكندرية، الناس كلمت الإسعاف لما وصلنا منطقة الحمام وطلعت على المستشفى». حتى هذه اللحظة ينتظر جاسم تحرك الحكومة إما بصرف تعويض أو توفير عمل يتناسب مع طبيعة إصابته، والواضح أنه سيظل ينتظر.

جاسم خالد جالى.. أحد مصابي الألغام بالعلمين

الألغام.. بين الحارس والدليل

حالة جاسم واحدة من ضمن عدة حالات تعرضت إما لفقدان حياتها أو الإصابة فى محيط المناطق الأثرية التابعة لمدينة العلمين، دفعنا ذلك لإجراء مقابلة مع مهنا صالح، حارس آثار بالمنطقة، الذى كشف عن أنهم عثروا على ألغام عدة مرات خلال القيام بعملهم فى مناطق الآثار.

وحول المخاطر التى تواجههم أثناء العمل فى المناطق الأثرية المُحاصرة بالألغام يقول: «مخلفات الحروب موجودة بكثرة فى تل العيس والقصبة الغربية وسور العطش ومنطقة آثار مارينا، لكننا نعرف طريقة التعامل معها، نجدها فى الأماكن المنخفضة، ونعمل على إبعادها إلى أماكن مرتفعة حتى لا يسقط ضحايا».

مهنا يشير إلى أنهم يستعينون بدليل أثناء العمل فى المناطق الخطرة، ودائمًا ما يكون من كبار السن، نظرًا لامتلاكهم خبرة بطبيعة المكان، نتيجة معايشتهم أحداث الحرب العالمية منذ بدايتها، متابعًا: «حصلنا منهم على معرفة أماكن وجود الألغام وكيفية التعامل معها»، يضيف: «إحنا مش معنا خرائط بنمشى بخبرتنا».

مهنا صالح.. حارس أثار

حديث حارس الآثار وجّهنا إلى الجلوس مع داوود مشرى حسن، ذلك الدليل، الذى تستعين به منطقة آثار مارينا فى المناطق الملغومة بمخلفات الحروب، الذى بدأ كلامه: «أعلم جميع المناطق المُحاطة بالألغام فى منطقة العلمين، وتكون هناك شواهد على وجودها من عدمه، فنحن نسير فى مسارات محددة تجنبنا الاصطدام بمخلفات الحروب».

ويؤكد مشرى، الذى تجاوز التسعين، وفقد 12 من أسرته نتيجة مخلفات الحروب، أن 25% من الألغام، التى وضعت فى منطقة العلمين خلال الحرب العالمية لا تزال موجودة، وتم التخلص من 75% منها، مشيرًا إلى أن الألمان قاموا برش الألغام فى العلمين، لأن التكوين الجغرافى للمنطقة يختلف عن بقية المناطق الأخرى، حيث يحدها من الشمال البحر الأبيض والجنوب منخفض القطارة.

داوود مشرى.. دليل للمواقع الأثرية

يقسم داوود، الألغام الموجودة فى العلمين إلى نوعين، جلاتينية تتأثر بالعوامل الطبيعية، وتفقد مفعولها، والأخرى مصنوعة من مادة دى إن إيه، ووجودها يشكل خطورة على المواطنين، نحن لا نعرف من المسؤول عن الدمار الذى يحدث فى مدينتنا، هل الحلفاء أم المحور أم ألفريد نوبل أم مونتجيمرى؟!

756 مُصابًا جراء الألغام بمطروح
انتقلنا بعد ذلك إلى مكتب الدكتور عبد العزيز الدميرى، مدير آثار مرسى مطروح، الذى أشار إلى أن مخلفات الحروب موجودة فى أماكن معروفة فى أعماق الصحراء، والمواقع الأثرية الموجودة فى المدينة معلومة لنا، وتقريبًا خالية من الألغام «إلى حد ما».

وأوضح، أنه لم تسجل أية سابقة بوجود مخلفات الحروب أثناء العمل الأثرى، لكنه ناقض نفسه قائلًا: «وجدنا مخلفات حروب فى مقابر جبل الموتى بسيوة، كانت بقايا قنابل، واكتشفنا مهبط طيران استعمله الإنجليز فى ضرب الألمان والطليان، وأبلغنا الجهات المعنية على الفور».

وأشار الدميرى، إلى أنهم يسيرون فى مدقات قديمة، فلا بد، حسب كلامه، أن يكون هناك مكان لأثر أرجل لأفراد أو سيارات حتى نتأكد من خلو المنطقة من الألغام، فعين الأثرى تختلف عن الشخص العادى، حيث ينظر إلى الأرض لملاحظة بعض الشواهد سواء بقايا مخلفات أو ذخائر أو فوارغ.

وطبقًا لمنسق عام المؤسسة التنفيذية لإزالة الألغام بوزارة التعاون الدولى، حسين السنينى، التى بدأت عملها فى 2006، بهدف تطهير الأراضى الملوثة بمخلفات الحروب فإن الوزارة لديها قاعدة بيانات جيدة لمصابى الألغام، وقامت بتوثيق تعرض 756 للإصابة بالألغام داخل مرسى مطروح، بخلاف المئات من الوفيات التى لم توثق لعدم تمكننا من حصرهم.

وأصدرت الحكومة المصرية قرارها بتشكيل اللجنة القومية للألغام  عام 2000  في عهد رئيس الوزراء الأسبق، عاطف عبيد، والتي اقتصر عملها على تطهير مناطق الساحل الشمالي الملوثة بالألغام، لكن الغريب أنها لم تجتمع إلا مرة واحدة  بعد 17 عامًا من إنشائها، وذلك من أجل التصويت على اتخاذ قرار بإنشاء اللجنة المصرية لإزالة الألغام في جميع محافظات مصر التي تلوثت بالألغام.

مسؤول وزارة التعاون الدولى بمرسى مطروح، أشار إلى أنه من ضمن مهام الوزارة مساعدة المصابين، وحصر ضحايا الألغام من خلال فرق عمل بالتنسيق مع وزارة التضامن الاجتماعى، وأنهم واجهوا أزمة فى تسجيل عدد الوفيات، لأن المواطنين كانوا يتخوفون من تقديم بلاغات تجنبًا للمساءلة القانونية.

وكشف السنينى، عن أن وزارة الآثار لم تتقدم بأى طلب لتطهير أية مناطق تابعة لها، وإذا فعلت ذلك، فإننا سنوفر لها كل المستلزمات بأعمال التطهير حتى يعملوا فى مكان مؤمن بشكل كامل، مشيرًا إلى أن المصابين يتلقون المساعدات عن جانب وزارة التضامن الاجتماعى، التى تقدم معاشات تتخطى 1000 جنيه لـ756 أسرة أو معاشات ضمانية أقل من 1000 جنيه.

وأضاف، أن هناك 300 ضحية بحاجة إلى أطراف صناعية سفلية، وبدأنا من خلال سلسلة متوالية من المجموعات بنقلهم لمركز التأهيل بالعجوز، ووصل عددهم لـ260 فردًا، كما أن الأمانة بدأت فى 2015 بعمل الطرف الثانى الاحتياطى لكل المصابين، وتم الانتهاء من تركيب 266 طرفًا صناعيًا.

وقال إنه لم تسجل فى منطقة العلمين خلال عملى 2010 وحتى الآن قد تضررت من الألغام باستثناء أننى تلقيت 22 إصابة بالألغام من البدو، ولم يكن بينهم حراس من الآثار أو الخفراء، وبالتالى لم نسجل أية حوادث فى المناطق الأثرية فى العلمين، وأن معالمها الأثرية خالية تمامًا من الألغام.

إجراءات السلامة والحماية غائبة

توجهنا بالمعلومات، التى حصلنا عليها إلى نعمة يعقوب، مدير عام آثار منطقة مارينا بالعلمين، التى كشفت عن وجود 5 مناطق أثرية ينتشر حولها الألغام، وصنفتها بأنها أماكن شديدة الخطورة، من ضمنها تل العيس والقصابة الغربية، مشيرة إلى أن وزارة الآثار لا تتخذ إجراءات سلامة وحماية.

يعقوب جزمت: «مفيش حد تعرض من الأثريين لإصابات داخل منطقة أثرية، لكن حدث ذلك لأقرباء حراس الآثار، وأغلبهم من كبار السن»، متابعة: «وإحنا شغالين فى جنوب العلمين وجدنا فوارغ طلقات رصاص من أيام الحرب العالمية الثانية، وأثناء قيامنا بعمل حفائر فى كارنفيا عثر زميلنا على دانة كبيرة وسلمها لقسم شرطة الضبعة».

تشير مسؤولة الآثار إلى أنهم يواصلون العمل حتى إذا عثروا على مخلفات حروب فى المناطق الأثرية، وأنها تلجأ إلى الدليل، أفراد من البدو لديهم معرفة بالمناطق غير الآمنة وكيفية المرور منها، حتى لا يصاب أحد من الأثريين بمكروه.

أنهت نعمة حديثها قائلة: «مافيش أى تأمين على أرواح الأثريين اللى شغالين فى المناطق الخطرة، والمفترض يكون فيه بدل مخاطر للأثريين فى العلمين وسيناء، نظرًا لما يواجهونه من صعوبات».

وتطالب مروة عبد الحفيظ، المتحدث باسم اتحاد العاملين بالآثار، تحت التأسيس، أن يكون هناك تعويض لكل من تعرض لمخاطر خلال عمله فى المواقع الأثرية، مشيرة إلى عدم وجود ما ينظم العلاقة بين العاملين والوزارة، «مافيش حد بيسأل فينا».

وأشارت إلى أن الوزارة لا تعتنى نهائيًا بالعاملين بخصوص بدل المخاطر، وأن بند الحفائر ضائع ومهدد، فالعاملون به لا يعملون إلا ستة أشهر خلال العام، وتعتبرهم الوزارة فئة غير دائمة، ولا توفر لهم عقود عمل لحمايتهم.

المعونات وحدها لا تكفى.. أين الخرائط؟

معدا التحقيق حصلا على مستندات رسمية من مصدر مسؤول بوزارة التعاون الدولى، تكشف وجود عوائق تقف أمام مصر لإزالة الألغام من المناطق الملوثة بها، تتمثل فى عدم وجود تسجيلات دقيقة لحقول الألغام، فضلًا عن زيادة حساسيتها نظرًا لرصدها منذ أكثر من 50 عامًا، وتحركها بفعل تغير الظروف الجوية، كما أن تحرك الرمال فى بعض المناطق أدى إلى تواجد الألغام على عمق أكثر من 2 متر فيها، إضافة إلى اكتشاف قنابل طائرات ذات أعيرة كبيرة وغير متوقعة تصل حتى عيار 2000 رطل، والتكلفة العالية لتطهير المساحات، التى تنتشر فيها الألغام فى مصر، والتى تصل إلى 250 مليون دولار، بمعدل 1000 دولار للهيكتار (1 هكتار = 10,000 متر مربع)، والذى يقل عن التقدير العالمى للتطهير، الذى حددته مؤسسة ميكام عام 1997، المُقدر بـ335 مليون دولار بمعدل 1351 دولارًا للهيكتار.

الوثائق أشارت إلى المعونات التى قدمتها بعض الدول كمساعدة فى إزالة الألغام

يرى عبد الحميد كمال، الذى كان أحد ممثلى مصر بالجامعة العربية عن ملف الألغام، أن المساعدات التى قدمتها هذه الدول ليست كبيرة، مشيرًا إلى أن مصر متمسكة بأن تدفع هذه الدول تكلفة التنمية فى المناطق الملغومة بمخلفات الحروب.

وأشار كمال، إلى أن مدن القناة فى السويس والإسماعيلية وبورسعيد تضرروا من الألغام، وأن إسرائيل أعطتنا الخرائط الهيكلية، وليست الحقيقية لمناطق الألغام فى سيناء، وبالتالى أصبحنا أمام مشكلة.

ورفضت مصر التوقيع على اتفاقية حظر الألغام التي تُلزم في مادتها السادسة، كل دولة طرف بتقديم المساعدة من أجل رعاية ضحايا الألغام وإعادة تأهيلهم وإعادة إدماجهم اجتماعياً واقتصادياً"، والتي تقدم أنشطة مساعدة للضحايا تتراوح بين تقديم الرعاية الطبية الطارئة وإعادة التأهيل البدني، والدعم النفسي، وإعادة الإدماج اجتماعياً واقتصادياً.

أمين عام اتحاد الأثريين العرب: «الآثار» لا تعلم شيئًا عن مناطقها المُحاصرة بالألغام

بينما يرى الدكتور محمد الكحلاوى، أمين عام اتحاد الأثريين العرب، أن الدول التى زرعت الألغام فى مصر لم تسلم لها 99% من الخرائط التى توضح مناطق وجود مخلفات الحروب، كما لم تتبن الأمم المتحدة أية مشروعات للتخلص من الألغام فى مصر.

الكحلاوى قال: «لا أعتقد أن وزارة الآثار تعلم شيئًا عن مناطقها المُحاصرة بالألغام، ولا بد من إجراء مسح للمناطق الأثرية من مخلفات الحروب أو الأجسام الخطرة، لأنها قد تُدمر بعثة بأكملها، مطالبًا بإنشاء صندوق لتأمين حياة العاملين بالحفر فى المناطق الأثرية».

وطالب الكحلاوى، بمحاكمة من اختار موقع تل دفنة لإجراء حفائر أثرية، مشيرًا إلى الألغام منتشرة فى المناطق التى وقع فيها حروب وصراعات مثل سيناء، وأن نسبة الخطر أثناء العمل الأثرى فيها كبيرة، ولا يصح أن يمتلك سارقو الآثار أجهزة للكشف عن المعادن، فى حين عدم توافرها لدى وزارة الآثار.

حفائر سيناء

كان الاتجاه بعد ذلك إلى البحث عن كل ما يتعلق بالعمل الأثرى بشمال سيناء، حددنا موعدًا لمقابلة الدكتورة فايزة هيكل، أستاذ الآثار المصرية بالجامعة الأمريكية، بصفتها من أقدم الأثريين، الذين شاركوا فى اكتشاف آثار سيناء، التى أوضحت أن الألغام من ضمن المخاطر التى قد يتعرض لها الأثريون خلال عملهم، مشيرة إلى وجودها فى عدة أماكن وقع فيها حروب ومعارك مثل سيناء، وهناك محاولات لتطهيرها من الألغام حتى تصبح المناطق آمنة.

هيكل قالت: «كنت مسؤولة فترة التسعينيات عن حملة لإنقاذ آثار شمال سيناء، وعلى الرغم من عدم تعرضنا لحادث انفجار ألغام هناك، لكن المعيشة كانت صعبة جدًا، كنا نعيش فى أماكن ليست مؤهلة، شمال سيناء مليانة ألغام وغير ألغام، ومع ذلك بعض الأثريين قدموا نجاحات».

وأشارت هيكل، إلى أن أعمال الحفر توقفت فى سيناء لأن الناس قالت إحنا مش مستعدين نضحى بأى حد من العمال، وأن العديد من المناطق تم تنظيفها من الألغام فى شمال سيناء، لكن فيه حاجات ممكن تكون لسه موجودة بالصدفة لم تتم إزالتها، لكن هما شاطرين بيعرفوا يعملوا الشغلانة دى، متابعة: «المتخصص بيعرف يحفر لكن مايعرفش الألغام فين».

ريحان: إسرائيل لغمت بعض المواقع الأثرية.. ولا نعمل إلا بموافقة الأمن

قادنا ذلك الحديث للتواصل مع مسؤولين بالآثار، سبق لهم العمل بسيناء، من بينهم الدكتور عبد الرحيم ريحان، مدير عام البحوث والدراسات الأثرية والنشر العلمى بسيناء ووجه بحرى بوزارة الآثار، الذى طلب مراسلته عبر البريد الإلكترونى نظرًا لصعوبة السفر إلى هناك.

يقول ريحان، فى إجابته عن أحد الأسئلة المتعلقة بكيفية تعامل البعثات الأثرية مع المناطق المُحاصرة بالألغام، إن إسرائيل لغمت بعض المواقع الأثرية، لكننا كأثريين بعيدون عن هذه المناطق، ولا نعمل بأى منطقة إلا بموافقة الجهات الأمنية، التى تعلم طبيعة كل منطقة تمامًا، ويكون العمل تحت إشرافهم ورعايتهم لتوفير الحماية لأفراد العمل سواءً أفراد بعثات آثار مصرية أو بعثات آثار أجنبية.

وأوضح أنه قبل العمل يتم إبلاغ كل الجهات الأمنية بالموقع وشرطة السياحة والآثار، وفى حالة حدوث أى مكروه يتم إبلاغهم للمساعدة، وهم متواجدون معنا بصفة دائمة، وفى حالة البعثات الأجنبية يكون هناك مسئول مقيم مع البعثة، فهناك تعاون تام بين الأثريين والجهات الأمنية والمحليات بأى موقع.

على الرغم من تأكيد ريحان، ابتعاد الأثريين عن مناطق الألغام، فإن الدكتور غريب سنبل، رئيس الإدارة المركزية للصيانة والترميم، قال غير ذلك أثناء استقباله لنا فى مكتبه القاطن بشارع نوبار بوسط القاهرة: «جميع العاملين يتعرضون لخطورة، وكنا نلجأ لربنا الحامى، وأوقات كتير جدًا كنا بنشوف اللغم ونوصلّه قبل ما نصطدم بيه».

وأشار إلى أن تل أبو صيفى فى القنطرة شرق من المناطق، التى شهدت خطورة على جميع العاملين، لكن الكشف كان أكبر من أننا نفكر فى نفسنا كأشخاص، بذلنا مجهودًا كبيرًا، كنا بنشتغل وعارفين إننا ممكن نتعرض لخطورة، لكن بننسى ده لما بيكون أمامنا هدف أكبر.

مسؤول الآثار، الذى قضى 20 عامًا من عمره يعمل فى سيناء، يقول، «لدينا خرائط كاملة، وكنا بنبقى على علم تام بالمناطق الخطرة وغير الخطرة، لكن بمنتهى الصدق ما كناش بناخد الكلام مأخذ الجد، لأننا لدينا هدف أكبر من أن حد يموت، الخسائر كانت أقل من اللى كان ممكن يحدث، ربنا ستر لأن النوايا كانت خالصة».

سنبل تابع، «رغم امتلاكنا الخرائط فيه أماكن مش معروفة، وهذا ليس ضعفًا من الإدارة الأثرية، لأنها جمعت كل ما أوتى لها، لكننا بحاجة إلى مزيد من الدراسات لتحديد مناطق الخطر كاملة، ياما شوفنا مخاطر وربنا كان لطف بينا، لكن ماينفعش وإحنا 2017 نشتغل بشكل عشوائى أو لسه بنشتكى من الألغام فى المناطق الأثرية»، منهيًا حديثه بالتأكيد على أن «وسائل الحماية والأمان فى وزارة الآثار معدومة، إحنا بنشتغل ببركة ربنا».

الأهرامات.. ألغام خلف الهرم الأصغر

لم تتوقف الرحلة عند تلك النقطة، إنما فوجئنا خلال عملية البحث بواقعة غريبة تناقلتها وكالات أنباء محلية وعالمية، دون ذكر أية تفاصيل عنها، تشير إلى إصابة 3 أشخاص فى انفجار لغم قرب الأهرامات.

توجهنا إلى منطقة الأهرامات بهدف التواصل مع العاملين هناك، اكتفى جميع من التقيناهم بتأكيد الواقعة، لكن لا أحد من هؤلاء كان على دراية بمعلومات عن مصابى الحادث، انتقلنا بعد ذلك إلى محافظة الغربية، قاصدين مدينة طنطا لمقابلة على الأصفر، الذى كان يشغل مدير منطقة الهرم أثناء الواقعة الذى أكد، «عثرنا على ألغام فى منطقة خلف الهرم الأصغر منكاورع ثلاث مرات أعوام 2007 و2009 و2010، وهى ناتجة عن مخلفات الحرب العالمية الثانية، حيث استخدمت منطقة هضبة الهرم لتخزين الديناميت والقنابل».

وأوضح الأصفر، أنه رأى بعينيه فى منطقة الهرم أحد أبناء منطقة نزلة السمان، يضرب دانة بحجر، فانفجرت فى وجهه، مشيرًا إلى وجود مقابر منحوتة على طريق الفيوم، عثروا فيها على صناديق كاملة من المتفجرات.

مواصلًا حديثه: «بعد هذا الحادث فوجئنا بوجود ألغام فى طريق الهرم، ومن زرع تلك الألغام لم يقدم خرائط بمواقعها»، وأشار إلى أنه غير راض عن إجراءات التأمين والسلامة فى المناطق الأثرية، وأنها مسألة بحاجة لإعادة النظر، وأنه لا بد من وضع عناصر أساسية للعمل خاصة بالأمن والسلامة.

منظمة اليونيسكو أدرجت على موقعها الرسمى قائمة تراث عالمى مهددة بالخطر، وكان من ضمن المعايير التأثر بالنزاعات المسلحة والحروب، لكنها لم تضع سوى منطقة واحدة من مصر، هى مدينة أبو مينا، التى تقع على الحافة الشمالية للصحراء الغربية، متغاضية عن مناطق أخرى مُحاصرة بمخلفات الحروب.

«الآثار»: 99% من المناطق الأثرية آمنة.. والعمالة لا تتبع الوزارة

واجهنا الدكتور مصطفى وزيرى، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، بكل ما قمنا بتوثيقه من معلومات، التى تكشف وجود مناطق أثرية مهددة بالألغام، لكن ردوده كانت تسير فى اتجاه آخر، قائلًا: «نحن نمتلك أجهزة حديثة تقوم بمسح المنطقة قبل إجراء أعمال حفائر، حيث يتم مسحها بالأجهزة المتخصصة لكشف ما إذا كان هناك لغم أرضى من عدمه».

وأشار إلى أن العمالة المؤقتة يقتصر دورها على رفع الرديم (التراب)، وإخراجه من المنطقة، التى يتم البحث فيها عن الآثار، وهم لا يتبعون وزارة الآثار، متابعًا: «اللى بتشيل الرديم، دول العمالة اللى ملهاش بدل مخاطر، لأنه لم يتعرض لحاجة خطيرة، مافيش عمال من خارج الوزارة بيحفروا دول بيشيلوا فقط».

وتابع: «مافيش أماكن تشكل خطورة كبيرة، والمناطق الأثرية آمنة بنسبة 99%، إحنا ما بننزلش نعرض حياة زمايلنا للخطر، وبندرس المسائل كويس جدًا».

أسئلة معلقة.. تبحث عن إجابات

إجابات المسئولين عن خطورة الأماكن الملغومة بالمتفجرات تطرح عدة تساؤلات:

هل كان ضحايا الحوادث السابقة يقعون ضمن نسبة الـ1% التى يراها مسؤول الوزارة أنها غير آمنة؟
من يتحمل ذنب العمال الذين قتلوا وأصيبوا أثناء قيامهم بأعمال الحفائر؟
كيف تقع حوادث انفجار ألغام فى مناطق أثرية إذا كانت عمليات المسح الأثرى تحدث قبل بدء العمل؟
لماذا وافقت اللجنة الدائمة بالوزارة على قبول طلبات مقدمة من بعثات الآثار بإجراء حفائر فى مناطق خطرة؟
لماذا لا يحصل المتضررون من الألغام على تعويضات مناسبة من جانب الوزارة؟

شارك الخبر على