قوة الأكذوبة

ما يقرب من ٧ سنوات فى التحرير

إسرائيل أكذوبة، ولكنها أقوى من أي حقيقة عربية، أقوى من الشواهد التاريخية والوثائق المكتوبة، لأنها ببساطة لا تأبه بها ولكن تلتف حولها وتنسج أكاذيبها الخاصة التي سرعان ما تخفي الحقيقة الأصلية، هكذا تفعل في قضية القدس وفي بقية القضايا الأخرى، بينما يراقبها العالم العربي في بلاهة عاجزا عن الرد والقيام بأي تصرف، كل ما يفعله هو مناشدة العالم ليقوم بالدفاع عنه وعن قضاياه، لكن العالم لا يرانا، صورتنا أصبحت شاحبة وتزداد شحوبا حتى أصبحت مهددة بالزوال، في القمة الإسلامية الأخيرة التي عقدت في تركيا بمناسبة اعتراف أمريكا بالقدس كعاصمة رسمية لإسرائيل بدا الحكام العرب في حالة يرثى لها، حفنة من العجائز، مرضهم ليس في عقولهم ومستوى أفكارهم فقط، فهذا أمر قديم، ولكن في أجسادهم الواهنة، يتحركون بصعوبة ويفكرون في عجز ويتصرفون بأغرب الطرق، أحدهم غائب عن الوعي معظم الوقت تاركا بلاده يحكمها أخوه مع حفنة من العسكريين المنتفعين، وآخر يستغل الفوارق المذهبية ويقوم بتأليب قسم من شعبه على القسم الثاني، وثالث يقصف جيرانه بأحدث المقاتلات الأمريكية ويرهن بترول بلاده من أجل هذا الغرض، ورابع يقصف شعبه بالبراميل المتفجرة، ولا تتوقف غرائب الحكام العرب عند حد، فهل يمكن أن نعتبر هؤلاء مؤهلين للحديث عن قضية سامية مثل القدس؟

في مقابل هذه الصورة الباهتة توجد إسرائيل بأكاذيبها المعتادة، قوية وواثقة، عندما كان نتنياهو يزور فرنسا وقف بجانب الرئيس ماكرون متجاورين في مؤتمر صحفي، وأعرب ماكرون أن من رأيه عدم الموافقة على الاعتراف الأمريكي وأن هذا لا يخدم عملية السلام، ولم يبال الإسرائيلي بذلك ولكن قال في ثقة إن هذه ليست قضية رأي، والأمر لا يتطلب الموافقة أو عدم الموافقة لأن القدس عاصمة إسرائيل حقيقة لا تقبل الجدل، كانت القدس عاصمة إسرائيل وستبقى كذلك للأبد، هكذا يقول التاريخ، أمريكا لم تفعل أكثر من أنها اعترفت بالأمر الواقع، وبالطبع سوف يسهل هذا عملية السلام لأنه يضع خطوطا واضحة للمفاوضات، كل هذه الأكاذيب يقولها في قوة أمام رئيس فرنسا، وأمام العالم كله، ببساطة يلوي نتنياهو عنق التاريخ، فلا يوجد لإسرائيل تاريخ مؤكد في القدس، ولا في بقية فلسطين، كل وقائعهم التاريخية قائمة على كتابهم المقدس، الكتاب الذين كتبوه بأيديهم أثناء الشتات أو الدياسبورا عندما كانوا على هامش التاريخ، فالتاريخ لا يصنعه المطاردون ولكنه يحتاج لأقوام مقيمة في مكان واحد تتراكم فيه الخبرات وتتوالى الأجيال، ولكنهم رغم ذلك صنعوا منها أكاذيبهم الكبرى.

بنفس قوة هذه الأكذوبة، وفي سنوات سابقة، أعلن رئيس وزراء إسرائيل السابق مناحم بيجن في وجه الرئيس المصري السادات بصفاقة أن أجداده من اليهود هم الذين قاموا ببناء الأهرامات، لم يرد السادات عليه في لحظتها، ربما لم يفهم مدى قوة الأكذوبة وقابليتها للانتشار، لم يدرك أن إسرائيل تسرق علنا جزءًا من التاريخ المصري، تنسب لنفسها أهم موقع أثري في العالم، وتجرد مصر من آخر عجائب الدنيا السبع الباقية، براعة الأكذوبة أنها تستغل تداخل الحقب الزمنية وعدم وجود فواصل مؤكدة بين الوقائع المختلفة، رغم أن كل علماء الآثار يؤكدون أن بناء الأهرامات تم في عهد الدولة القديمة، قبل ألف عام من قدوم اليهود إلى مصر أثناء الدولة الحديثة، هذا إذا كانوا قد جاؤوا أصلا، الكتاب المقدس نفسه لا يذكر شيئا عن مشاركة اليهود في بناء الأهرامات، كما أنه لا يوجد نقش واحد يدل على أن اليهود دخلوا إلى مصر قبل أن يدخلوا إلى سيناء عام 67، ذلك العام المنحوس، قبل ذلك لم يدخلوها أبدا، ولم يضعوا حجرا على حجر، فقد كانوا مجرد رعاة يهشون على الغنم ويعيشون في أكواخ من سعف النخل، كيف لهم أن يتعلموا بناء شيء معقد كالأهرامات، يستلزم قدرا من معرفة العلوم الهندسية، وما خبرتهم في قطع الأحجار وشظفها ونقلها ورصها، الخبرة كانت في معابد مصر، في أعمدتها السامقة، وتماثيل آلهتها، روث الغنم لا يقيم معبدا فما بالك بهرم سامق يقف عاتيا في وجه صنوف الدهر؟!

قوة الأكذوبة فرضت نفسها أيضا على التفكير الديني المسيحي، فالتأييد المطلق الذي كانت تتلقاه من البروتستانت الأمريكي منحها القوة لتؤثر على بقية الطوائف الأخرى، فالبروتستانت كانوا تاريخيا من أشد أعداء اليهود باعتبارهم قتلة المسيح، وكان على إسرائيل أن تدفع بأكذوبتها الكبرى بأنهم هم ليسوا قتلة المسيح ولكنهم كانوا وقتها تحت الحكم المطلق لروما لذا فالمسئولية تقع على عاتق الحاكم الروماني وليس على حاخامات اليهود، لكنها حجة تخالف كل الوقائع التاريخية وأرغمت كنيسة الفاتيكان الكبرى على ابتلاعها إرضاء لضغوط إسرائيل ومن خلفهم يهود أمريكا. 
نحن كمسلمين لا نؤمن بأن اليهود قد قتلوا المسيح، فقد نجاه الله من عذابات عملية الصلب التي كان اليهود يدبرونها له، ولكن المؤكد أن اليهود كانوا يدبرون له جريمة لم تتم، فقد أوقعوا به عند الرومان، وقدموا الرشوة ليهوذا حتى يقوم بتسليمه ثم سلموه بدورهم للرومان، وغير معروف لنا كمسلمين كيفية نجاته من هذا الفخ المميت، ولكن في الفكر المسيحي تمضي الأمور إلى نهايتها، فالحاكم الروماني بيلاطس يحقق معه ويكتشف أنه رجل صالح ولا توجد ضرورة لقتله، ولكن رد الحاخامات يأتي حاسما: دمه علينا وعلى أبنائنا من بعدنا، وحتى عندما تم رفعه للصليب كانت هناك فرصة أخيرة للاختيار، فقد كان على الصليب المجاور لص شهير هو "باراباس"، ويخير الحاكم اليهود للمرة الأخيرة بين العفو عن المسيح أو العفو عن اللص فيختارون اللص الذي يتم إنزاله بينما يبقى المسيح على الصليب حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، يذكر الإنجيل كل هذه الوقائع، ومع ذلك استطاع اليهود المعاصرون أن يتهربوا من مسئوليتهم عنها، وأن يظفروا من الفاتيكان بوثيقة تبرئهم من دم المسيح، رغم أنهم يرتكبون في فلسطين ما هو أسوأ من صلب المسيح، يقتلون العشرات من أطفال المسلمين والمسيحيين العرب كل يوم بدم بارد، لا يرفعون فقط شخصا واحدا على الصليب ولكنهم يقتلعون جذور شعب بأكمله، يبيدون قراهم ويحرقون أشجار زيتونهم التي يبلغ أعمارها مئات السنين حتى يبنوا مستعمرات تضم كل الأفاقين من أصقاع أوروبا، جريمة قتل المسيح ما زالت مستمرة لأنهم يقتلون أبناءه كل يوم.

لن تكون القدس العاصمة التاريخية لإسرائيل هي الكذبة الأخيرة، ولكنها ستفرض بالقوة كل عناصر تاريخها المزيف، وسوف تستغل سطوتها المدعومة بقوة أمريكا لإقرار كل هذا الزيف التاريخي، ونحن ما زلنا نقف صامتين، نهمل كل عناصر القوة الثقافية التي نملكها لمقاومة هذا الأمر، ربما تمكنت إسرائيل من هزيمتنا عسكريا ولكن لا يجب أن ندعها تهزمنا ثقافيا أيضا.

شارك الخبر على